في حلقة سابقة تحدثت عن مرحلة شنقيط ووادان، ثم ختمت الموضوع بمرحلة تيشيت التاريخية، وفي هذا المقال سأتحدث عن:
مرحلة مدينة تجكجة
كانت المدة التي قضيناها في مدينة تيشيت قد أوحت إلينا أن المخزون التاريخي للمدينة قد ارتحل إلى أماكن قد لا تكون بعيدة فكانت مدينة تجكجة هي أقرب الأماكن وأشدها ارتباطا بها. ومن هنا بدأنا في ترتيب الرحلة المتجهة إلى تلك المدينة التي توحي إليك قبل أن تصل إليها بأنها من المدن التاريخية والمحتضنة لمخزون كبير من مخطوطات هذه البلاد. فأعلام المدينة قد شاركوا في كتابة التاريخ الناصع للبلاد ومن يعود إلى كتاب معجم أسماء المؤلفات الموريتانية المخطوطة سيلحظ مشاركتهم في تأليف كثير من الكتب وفى مجالات متعددة من الفكر الشنقيطي، ولعل أبرز أولئك العلماء العلامة سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم.
حزمنا أمرنا وجمعنا ما نحتاجه من وسائل الإقامة وانطلقنا في رحلة تاريخية ولم تكن الطريق قد عبدت كما هو الآن فكانت سيارتنا تنساب ببطء بين تلك الصخور الصعبة التي لم تصلها بعد معاول الهدم بعد، فكانت صالة انيعوي في بداية العمل أما باقي الطريق على حالته الأولى التي مررنا بها ونحن في رحلتنا إلى مدينة تيشيت.
وقبل أن نصل إلى المدينة كنا مررنا بمدينة المجرية وطريقها الممتدة في الأعلى والمعروفة باسم "أشتف" وهو اسم لمسمى، نعرفه نحن أهل المدن التاريخية حيث يستعمل في صب الماء بعيدا عن ظهور المنازل، ثم واصلنا الطريق لنمر بمدينة النبيكة حيث يوجد قصر البركة ولنا وقفة أطول عند هذه المدينة ونحن في العودة. لقد كانت المناطق التي مررنا بها توحي بما قلنا في هذه المقدمة من أن المنطقة تمثل عبق التاريخ بكتبها ومدنها وحتى ساكنيها المتشبثين بذلك التراث الغني.
لم نكد نصل حتى تلقفتنا أياد كريمة قد حزمت أمرها على أن تقدم لنا كل العون في إنجاح مهمتنا البحثية. سكت هدير السيارة عند ما وصل إلى باب الرجل السمح، الطيب الخلق والخلق الأستاذ لمرابط بن الطالب محمد. وقد استقبلنا في منزله الرحب، وأغدق علينا من عظيم كرمه ووافر نعمته، كما هيأ لنا كل أسباب الراحة ووسائل التعامل مع أهلنا من ملاك المخطوطات، فلم نضيع وقتا فمضينا بعد أن أخذنا القدر الكافي من الراحة إلى أول مكتبة معدة ومهيأة للعمل وكانت تلك المكتبة هي مكتبته هو نفسه، وقد قمنا بفهرستها وساعدنا في ذلك قيام الرجل بأعمال وصيانة لمحتويات خزانته، وتضم تلك المكتبة نفائس المخطوطات في مدينة تجكجة من أهمها كتاب في الأدوية المفردة مجدولة، لإبراهيم بن أبي سعيد، ألفه صاحبه سنة 633هـ وقد نقله من خط مؤلفه، محمد بن محمد أيوب القصبي سنة 944هـ بخط نسخي. والكتاب علي شكل معجم، وينتهي بحرف الغين. وهذا نموذج منه، في حرف الفاء:"فرصاد": هو التوت ذكر في حرف التاء".
وكذلك مجموعة نافعة من مؤلفات العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم المتوفى سنة 1233هـ وغير ذلك مما ضمه الفهرس. ولما استوى ذلك العمل انتقل بنا منسق الرحلة إلى المكتبات الكثيرة الأخرى، وقد استوقفتني مكتبة خاصة أزلنا عنها الغبار وجمعنا محتوياتها في صناديق، تلكم هي مكتبة تلميذ سيدي عبد الله، الطالب أحمد بن حنكوش المتوفى 1273هـ وقد كان لي الشرف في اكتشاف مخطوطة نادرة لكتاب الإشارة في تدبير الإمارة لمحمد بن الحسن الحضرمي المرادي المتوفي سنة 489هـ ، وجاء اسم الكتاب مخالفا لما هو معروف وهو كتاب واسطة السلوك في سياسة الملوك. وتختلف هذه النسخة عن النسخ التي وصفها محققا كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة: رضوان السيد وسامي النشار، سواء في العنوان أو في الشكل حيث إنه توجد في كل ورقة من مخطوط تجكجة عشرة أسطر، وقد استعمل ناسخ تلك المخطوطة عدة ألوان خضراء وصفراء وسوداء مع تطريز حسن. وهناك كتب أخرى جد مفيدة ذكرت بعضها في مقال عن تلك المكتبات نشرته في مجلة الموكب الثقافي. وأعتقد أننا ذهبنا عن تلك المكتبة ولا يزال في نفسي شيء من أن فيها نفائس لم نقف عليها. ولم ننتهي من ذلك العمل حتى انتقلنا إلى مكتبات أخرى نزورها بانتظام، وقد وقفنا في معظمها على نفائس من المخطوطات الوطنية والعربية والإسلامية من تفسير وحديث وفقه وعلوم قرآن ولغة وأدب وتصوف وطب وتنجيم. وقد وقفت هناك على كثير من كتب الموقتين المغاربة منثورة ومنظومة. كما فهرست نسخة جميلة من خزانة الأدب للبغدادي, ونصا فريدا من شرح الميمية لأبي عبد لله بن سيدي محمد بن آبَّ بن أحمد المزمري التواتي المتوفى سنة 1160هـ.
لقد مررنا في المدينة التاريخية على ما يزيد على عشرين مكتبة منها مكتبات رأت النور على يدينا ومنها مكتبات اعتنى بها أصحابها منذ فترة وقد حصلت على تمويلات من طرف المهتمين مما ساعدها على أن تقدم خدمات للمشتغلين بالتراث. إن العمل الذي قمنا به يعد سابقة في تلك المدينة فلم نسبق إلى فهرس مثله، فكان رائدا وفاتحا لكل عمل يقدم المخطوط العربي في تلك البقاع.
بعد أن استكملنا العمل انطلقنا إلى منطقة النبيكة وأقمنا هناك قصد حصر ما يمكن حصره، وكانت الرحلة أوسع مما كان مقررا، حيث أننا قصدنا المنطقة المجاورة لها من مثل قصر البركة، ثم مررنا بوادي النبط ونزلنا عند أهل آدب، أهل الأدب والفكر، وفهرسنا ما أمكنت فهرسته، ويلاحظ على تلك المنطقة أن مخطوطاتها قد تم ترحيلها إلى أماكن أخرى تساعد في الحفظ بعيدا عن الترحال. وقد رافقنا في رحلة انبيكه أحد أطر تلك المنطقة مما ساعدنا في الوقوف على الأماكن الحقيقية لحفظ المخطوطات، ولم يدخر جهدا في سبيل إنجاح مأموريتنا.
لقد طال عملنا كل المكتبات التي فتحت لنا أبوابها ونذكر هنا أسماء تلك المكتبات منسوبة إلى ملاكها شاكرين لهم حسن الاستقبال وكريم الوفادة, وهؤلاء هم:
مكتبة أحمد بن الزين، مكتبة محمد عبد الله ولد أحمد غالي، مكتبة حمودي بن المهابه، مكتبة البرار بن المصطفي، مكتبة محمد محمود بن ببه، مكتبة أحمد ولد محمد محمود بن سيدي عبد الله، مكتبة المصطفي بن محمد محمود بن حوبت، مكتبة المصطفي بن محمد محمود بن حوبت، مكتبة محمد محمود بن الإمام بن عبد القادر، مكتبة شيخنا محمد أحيد، مكتبة أحمد جدو بن الطالب محمد، مكتبة إسلم بن اعبيد الرحمن، مكتبة محمد يحظيه ولد البح، مكتبة سيدي جعفر بن بادي، مكتبة الشيخ السالم بن الشيخ محمد محمود بن النين.
لقد أنجز ذلك العمل في قالبه العلمي، وتمت مراجعته انطلاقا من المصادر العلمية التي تساعد في تحقيقه وإخراجه في ثوب علمي رصين مما يمكن الباحث العلمي من إنجاز بحثه. وكما قلت في الحلقة الماضية فإن هذا العمل هو ملك للمعهد الموريتاني للبحث العلمي، وأرجو أن يكون هذا العمل من بين الأعمال التي يعتني بها ويخرجها للقراء في أقرب وقت ممكن، فقد بذلنا فيه جهدا كبيرا ووقتا غاليا لنوصله إلى القراء والباحثين في ميدان علم المخطوطات في عالمنا العربي والإسلامي ثم لمن شاء الله بعد ذلك من العالمين.