أما وقد وجب الإمساك عن "عزيز"..!!! / أحمد ولد الحافظ

ساعات قليلة ويسدل الستار على محطة أخرى من تاريخنا.. محطة سالت في "تقييمها" أنهر من الحبر.. وكادت تسيل في "الاختلاف" عليها أودية من الدم.. لم يطهر قلمي ولا قلبي من تلك "الفتنة" رغم أن سيفي ظل في غمده.. !

لم أكن –بالمطلق- ناعما مع الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ طيلة رئاسته للبلد.. أو لعلي كنت –في الغالب- خشنا معه.. بدأتُ ذلك بُعيد انقلاب السادس من أغسطس 2008 بمقال تحت عنوان "وداعا أيها الرئيس الأخير" نُشر في موقع "الأخبار أنفو".. وبقيت –كذلك- لا أراني معنيا به من الكأس غير نصفها الفارغ.. إذ لستُ من النظام حتى أُدافع عن منجزاته، والانتقاد –في نظري- حتى ولو كان تحاملا؛ قد يدفع لمزيد من الإنجاز..!

اليوم وبعد أن أصبحت العشرية الأخيرة جزءا من تاريخ موريتانيا العام، وأصبح الرئيس محمد ولد عبد العزيز نفسه جزءا من هذا التاريخ العام.. ولم تعد الكتابة غير انطباع عن مرحلة من تاريخ هذا البلد؛ فإنني أعتقد أن شيئا من الموضوعية والتجرد ينبغي تناول تلك الفترة به؛ إذ لم تعد –في تقديري- جزءا من "التنافس السياسي" بقدر ما هي جزء من "التاريخ السياسي".. لم تعد "موقفا" أكثر منها "تأريخا".. من هنا؛ لا بأس برؤية الجزء الآخر من الكأس..!

السياق الزمني:

الحقيقة أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز جاء إلى الرئاسة في مرحلة ملغومة إقليميا ودوليا.. إذ تهاوتْ دول وسقطت بفعل ذلك الواقع، وكادت أخرى.. وليس من السر أننا الدولة الأكثر هشاشة في ذلك الإقليم وبكل الاعتبارات؛ حيث نعيش التشرذم العمودي والأفقي.. حيث تنتشر كل العوامل التي أدّت إلى انهيار ليبيا ومالي (فكر التطرف، النزعات الانفصالية، الاحتقان العرقي، غياب الديمقراطية، انتهازية النخب السياسية، الأطماع الدولية..).. !

ومع ذلك؛ استطاع ولد عبد العزيز أن يجنبنا كل تلك المخاطر، وأن يوصل السفينة إلى بر الأمان.. البناء في المجتمعات الكسولة ليس أمرا سهلا في الظروف الطبيعية؛ أحرى حين تكون الظروف –كما أسلفنا- ليست طبيعية.. هل تتذكرون الراحل معمر القذافي –رحمه الله- وهو يملي –بكل تعالِ- على ساستنا، بقصر المؤتمرات، تاريخ الانتخاب وآلياته..؟ هل تتذكرون حاله بعد ذلك بأقل من ثلاث سنوات..؟

هل تدركون أن جل الأنساق التي عصفت بليبيا كانت موجودة في سياقنا ("مظالم سياسية إسلامية" وشباب إسلاميون–في غالبهم- يرفعون شعار الرحيل.. وقادة إسلاميون سياسيون (إخوان وسلفيون) تربطهم علاقات دولية بدول "سخية" ومنظمات "عنيفة"... وساسة انتهازيون (يمينيون ويساريون) مستعدون من أجل غاياتهم لحرق الأخضر واليابس.. ومظالم اجتماعية.. ومجتمع تواق إلى المجهول) لكن الفارق –فقط- كان فارق الرئيس، وطريقة تعامله مع الأزمة.. آن لنا أن نعترف أن محمد ولد عبد العزيز قادنا في مرحلة كنا نحتاجه فيها، وكان يصعب –إن لم يكن يستحيل- أن يملأ غيره فراغه..!

الإنجازات:

الخلاف اليوم حول إنجازات الرئيس محمد ولد عبد العزيز هو خلاف حولها وليس عليها؛ بمعنى أن الكل يتفق على أن ثمة إنجازات؛ لكنه يختلف –فقط- على تفاصيلها (صفقاتها، تسييرها، فنيتها..) وهو شيء لم يكن مألوفا في السابق.. إذ من النادر أن اتفقنا على إنجازات في الماضي.. وإن اتفقنا عليها فإنها لا تكون بحجم الإنجازات الأخيرة؛ خصوصا إذا علمنا أن نظاميْن حكما موريتانيا ضعف حكم ولد عبد العزيز لها؛ وفي ظروف إقليمية ودولية معينة.. !

لا أريد لهذه الخربشات أن تسير على النمط السائد –الممجوج في نظري- في تعداد المنجزات؛ لكن البرهنة تقتضي شيئا من ذلك؛ إذ أرى أن "إصلاح الحالة المدنية" مشروع استراتيجي عملاق؛ وإن كان من مسوغ للشعار السياسي (إعادة التأسيس) فإنني لا أراه غيره.. لأن وضع نظام لحصر الموريتانيين؛ والموريتانيين وحدهم؛ لا يقل أهمية عن تأسيس دولة للموريتانيين.. !

حاجتنا –كذلك- لبوابة حديثة يحسن عليها السكوت (خصوصا أننا اكتوينا كثيرا من انطباعات الزائرين والمارين) تجعل من مطار نواكشوط الدولي (أم التونسي) وجسره وطريقه وقصر المؤتمرات.. إنجازات عملاقة (وإن كانت في طبيعتها ليست كذلك).. تضاف إلى ذلك تلك المنجزات المعنوية؛ من استضافة لقمتين إقليميتين، وفعالية دبلوماسية غابت عنا منذ أمد بعيد.. !

أخذ العزة بالإثم:

استطاع الرئيس محمد ولد عبد العزيز –وفي وقت وجيز- أن يسحب البساط من تحت المعارضة التقليدية؛ لأنه تبنى كل خطابها السياسي –تقريبا- ونفذه؛ بدءا بقطع العلاقات مع إسرائيل، وانتهاء بإلغاء مجلس الشيوخ، وإنشاء المجالس الجهوية؛ مرورا بمكافحة الفساد والمفسدين.. لكن المعارضة ظهرت –وللأسف الشديد- لا تعبأ ببرامجها السياسية، أو لا تمثلها –فيما يبدو- إلا إذا كانت هي من قام بتنفيذها.. هذا إذا كانت –فعلا- تنوي القيام بتنفيذها.. !

تتضح هذه الإشكالية جلية؛ حين نسترجع بعض المواقف؛ فحين كان رجل الأعمال المحترم محمد ولد بوعماتو في صف النظام: كان خازن أموال ولد الطايع.. وكان الذي دفع 5 مليارات من أجل نجاح ولد عبد العزيز.. وكان المسؤول عن إفلاس "سونمكس".. وكان الناهب لخيرات البلد؛ المتهرب من الضرائب؛ المتصرف في صفقات الدولة.. وحين تحول ولد بوعماتو إلى صف المعارضة: أصبح النظام ظالما لرأس المال الوطني.. يضايق رجال الأعمال في أرزاقهم.. يضيق بأهل العمل الخيري.. يطردهم بالضرائب المجحفة.. يحرمهم ظلما من صفقات الدولة.. ينهب الدولة وحده.. ! ! !

طالما نادى الكثيرون بحاجة العاصمة إلى متنفس للنزهة والترفيه.. بل إنه طالما صدّع التواصليون رؤوسنا بأنهم مُنعوا من إقامته ببلدية عرفات؛ أقاموا الدنيا في ذلك الموال ولم يقعدوها.. وحين كان ولد عبد العزيز يختتم أعماله بتدشين "ساحة الحرية" كان الكل يتندر ويسخر.. !

منجزات تستحق التنويه؛ حتى ولو كانت في سياق طبيعي، وفي حيز زمني أكبر.. لكن المنجز الأعظم؛ الذي لم تعرفه هذه الأمة أبدا؛ هو التنازل –احتراما للقانون- طواعية عن السلطة.. وقبل أن تسخروا وتأخذكم العزة بالإثم –على عادتكم- تذكروا أن التنازل الوحيد؛ الذي عرفته هذه البلاد؛ عن السلطة؛ هو تنازل رئيس حزب عن رئاسته لصالح ابن أخيه.. ! ! ! 

31. يوليو 2019 - 14:05

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا