كم يأخذ الهاتف من وقتك؟ / ‏القصطلاني سيدي محمد ‏

حضر ببالي هذا السؤال، و وددت أن أطرحه على أول من ألقى، و أن أجد جوابا صريحا و معمقا له.

 

ثم أدركت أنه من الإنصاف أن اطرحه على نفسي أولا، فظاهرة أخذ الهاتف لأوقاتنا، لم ينج منها كبير و لا صغير و لا مثقف و لا موظف و لا مسؤول و لا عامي، الناس فيها على قلب رجل واحد و يتفاوتون فقط في الدرجات.

 

عن نفسي يأخذ الهاتف الكثير من وقتي، فهو وسيلة إتصالي شبه الوحيدة مع المحيط الخارجي القريب منه و البعيد، و هو جزء من عملي الميداني الرسمي، حيث أنجز عليه بعض المهام المرتبطة بالعمل، و هو ذاكرتي و مذكرتي، فحتى هذا المقال الذي أكتب عنه الآن، أكتبه من خلاله، فكتابته من الكومبيوتر أيسر منها كتابته على الهاتف، حتى إن لحظة كتابة المقال أخذت من وقت جلسة صلة رحم، فكانت تتخللها بين الفينة و الأخرى.

 

ثم إن 99% من الأخبار بما فيها أخبار المجتمع الخاص أجدها على الهاتف.

و أكثر من ذلك و نتيجة للتطور الحديث أصبح الهاتف هو جيبي و صندوقي الذي أودع به الأموال.

 

 

يمكن القول أن كل يومياتي مرتبطة بالهاتف، و حين أكون منصفا أقول أن أكثر من نصف اليوم و الليلة،  أمضيهما مع الهاتف، ما بين اتصال و كتابة و مراسلة و تفقد للأخبار، و إنجاز لعمل، و تصفح لمواقع التواصل الإجتماعي. رغم اني لا استخدم منها إلا الفيس الذي لا أستخدمه إلا قليلا، و الواتس.

 

إذن حسب تقييمي يأخذ الهاتف أكثر من  نصف وقتي اي نصف عمري، و من المؤكد أن الكثير من الوقت الذي ياخذه مني لا يدخل في دائرة الأولويات او الواجبات.

و تفسيرا لذلك و تأكيدا لشفافية هذا التقييم، أذكر اني مرة نسيته في المنزل منذ الصباح، و لم أعد إليه إلا مساء، فأحسست بعزلة من دونه، و لقد فكرت في البداية بالعودة لإصطحابه، لولا مشقة بعد المكان، و كان رأي الزملاء هو أن أعود لإصطحابه، و كان رأيهم ينطلق من واقعية و وجاهة و لأن العمل مرتبط به، لكني أصررت على عدم العودة له، عنادا و محاولة يائسة للتحرر منه.

 

يمكن القول بإختصار أن الهاتف أخذ من حواسنا الخمس نصيب الأسد، فأغلب مسموعاتنا و مرئياتنا، و ملموساتنا عن طريقه، و لربما يأخذ من حاسة الذوق و الشم قريبا و ما ذلك بالعجيب، و لقد أخذ من ذوقنا المعنوي، قبل ذوقنا الحسي، و يكفي أن يأخذ من السمع و البصر و الفؤاد، فأولئك هم مرتكز تكوين معارف و شخصية الفرد كما أشار لذلك القرآن الكريم

 

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

 

هذا إذن عن ما يأخذ الهاتف من أوقاتنا بغض النظر إلى أين يأخذها، فذلك موضوع آخر يحتاج وقفة أكثر تركبزا و تخصيصا.

 

و لقد إستخدم بعض الكتاب و المثقفين عبارة " أن الهواتف تسرق أوقاتنا" و الحقيقة أنها تنهيها نهبا، و تأخذها أحيانا كثيرة طوعا لا غصبا.

 

و الآن أعود إلى السؤال 

 

كم يأخذ الهاتف من وقتك؟، أيها القارئ الكريم، بعد أن حاولت بإيجاز أن أجيب على نفس السؤال.

 

هل يأخذ نصف عمرك أو اكثر؟

 

و السؤال الأهم هو أين هي الأشياء الأخرى، كم تأخذ من أوقاتنا.

 

أحبابنا، واجباتنا، والدينا، أطفالنا، عائلاتنا، أرحامنا. معارفنا، تعليمنا، علماؤنا، أستاذتنا، أصدقاؤنا،...

 

ربما يجيب البعض أن بعض هذه الأشياء تأخذ وقتها من خلال الهاتف،  فمثلا، الأصدقاء الإفتراضيين أكثر من الواقعيين،  و  نمنحهم الوقت الكافي عبر الهاتف.

 

و لعل هذا الجواب هو مسار السؤال و مناطه. فجيلنا اليوم جيل هاتف بإمتياز، يتكلم و يستمع و يفكر و يتواصل، و يتحاور و يتزاور و يتعلم و حتى يعمل و قل إن شئت يأكل و يشرب من خلال الهاتف، و هو ما يستدعي أن نقف وقفة تأمل حوله، و كيف يمكن أن نحد من طغيان ظاهرة الهاتف علينا و أخذها طوعا أو كرها لجل أعمارنا؟

 

إنه لا يأخذ فقط أعمارنا، بل يأخذ معها أحبابنا و ارحامنا و أطفالنا و عائلتنا كلها.

21. أبريل 2024 - 23:23

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا