
في أرض المليون شاعر، حيث يمتزج التاريخ بالبداوة، وتغزل الشمس خيوطها على وجوه الرعاة، تَنبُت الثروة الحيوانية لا كرقم في دفاتر الإحصاء، بل كوجدانٍ ثقافيٍّ، وعصبٍ اقتصاديٍّ، وموردٍ استراتيجيٍّ تحيا عليه غالبية الشعب الموريتاني، غير أن هذه الثروة، على كثرتها وتنوعها، لا تزال تعاني من سوء تدبيرٍ طال أمده، وتخبطٍ بيروقراطيٍّ يُعجِز حتى الأمل عن النهوض.
موريتانيا تمتلك ثروة حيوانية هائلة، تعتبر إحدى أعمدة الاقتصاد الوطني، وتُقدّر وفق إحصائيات وزارة التنمية الحيوانية لعام 2024 بأكثر من 29 مليون رأس، من الإبل أكثر من (2 مليون)، والأبقار أزيد من (6 مليون)، والغنم والماعز (أكثر من 22 مليون رأس)، ومع ذلك، يعيش هذا القطاع في حالة ركود هيكلي، تعكسها أزمات متكررة، وسوء تدبير مزمن، وغياب رؤية استراتيجية فعالة.. رغم أن الثروة ليست مجرد غذاء، بل مورد رزق، ووسيلة تنقل، وسلاح تفاخر، وركن أصيل من الهوية الوطنية، ذلك أن في الأسواق الموسمية ومراعي الضفة ونُزل البوادي، تدور عجلة حياةٍ كاملةٍ حول هذه الثروة، إنها "الذهب الحيّ"، كما يصفها المنمون.
لا يمكن إنكار أن الجهات الرسمية قد أطلقت خططًا وبرامج دعم، منها التطعيمات الجماعية، وإنشاء بعض مراكز البحوث البيطرية، بل وحتى الحديث عن مشاريع تصنيع الألبان وتصدير اللحوم، غير أن معظم هذه الجهود بقي حبيس الخطط الورقية أو التعثر في مراحله الأولى بسبب سوء التخطيط و ضعف المتابعة، و
الإهمال المتراكم الذي أشعل فتيل أزمة صامتة بين المنمين والجهات الرسمية، إذ يشعرون بالخيانة، و يتساءلون "كيف لأمة أن تفرط في ثروتها الأولى؟! أما الدولة، فتتذرع بشح الموارد وتعدد الأولويات، وهكذا يزداد الجفاء، وتتسع الهوة.
انعكاسات الفوضى الإدارية ليست اقتصادية فحسب، بل اجتماعية وإنسانية، فمواسم الجفاف التي تمر دون خطة طوارئ تؤدي إلى نفوق الآلاف من الحيوانات، وهو ما يعني تشريد مئات الأسر، وزيادة الضغط على المدن، وتعميق الفقر، وتهديد الأمن الغذائي.
إن الخروج من هذه الحلقة يتطلب إصلاحًا عميقًا، يبدأ من إعادة الاعتبار للقطاع الحيواني، ليس بالكلمات، و إنما بالأفعال؛ إذ لابد من تأسيس قاعدة بيانات شفافة، دعم البنية التحتية البيطرية، إشراك المنمين في القرار، ومكافحة الفساد بصرامة لا تهاون فيها.
فموريتانيا، بهذه الثروة الكامنة، لا تحتاج لمعجزة، بل لإرادة صادقة، ورؤية متبصرة، ونظام يُثمن الثروة بدلًا من أن يُهدرها حيث يشكّل الرعي العمود الفقري لاقتصاد آلاف الأسر، وتقدّر فيه الثروة الحيوانية بعشرات الملايين من الرؤوس، فيما تبرز المفارقة المؤلمة، حيث "مورد استراتيجي غني، تقابله سياسات تدبير عاجزة وأخرى فاسدة، تقوّض فرص تنميته، وتدفع بالقطاع نحو هاوية من الأزمات المتكررة.
على امتداد السنوات الأخيرة، تواترت الشكاوى من المنمين بشأن اختلالات جسيمة في توزيع الأعلاف المدعومة، إذ غالبًا ما تُوزَّع وفق علاقات زبونية، بعيدًا عن معايير الاستحقاق والعدالة الجغرافية، كما أن الأدوية واللقاحات توصف – في أحسن حالاتها – بأنها "غير فعالة"، ما يفاقم من معدلات النفوق ويزيد الأعباء على المنمين.
ورغم أن موريتانيا تمتلك مؤهلات قوية لتصدير اللحوم والألبان ومشتقاتها، لا تزال البنية التحتية الضرورية محدودة، فلا مسالخ حديثة، ولا وحدات تبريد، ولا شبكة نقل مهيكلة، ولا موانئ مؤهلة لتصدير المنتجات الحيوانية... "الشركة" التي كان من المفترض أن تلعب دورًا رياديًا في هذا المجال، لم تحقق أي إنجاز حقيقي، ما يجعل القطاع رهين العشوائية ويخسر سنويًا فرصًا تصديرية واعدة! ثم إن الهوة بين المنمين والجهات الرسمية تتسع، مدفوعةً بإحساس متزايد بـ"الخيانة المؤسساتية"، فبدل الشراكة والدعم، يشعر الفاعلون في القطاع بالتجاهل والتهميش، ويؤكد العديد منهم، في أحاديث متكررة لوسائل إعلام محلية، أن القطاع الوصي شكل "عقبة" بدل أن يكون "وسيلة" تنظيمية تحفيزية لدعم التنمية.
في بلدٍ ينهضُ من بين كثبان الصحراء، وتنبض فيه الحياة من أصوات الإبل وصهيل القطعان، تشكِّل الثروة الحيوانية تاجًا اقتصاديًّا فوق الرأس، وعِمادًا ثقافيًّا لا يُشترى، إنها ليست مجرد أرقام في جداول، بل كيانٌ حيّ، يُغذّي الأفواه، ويُنعش الأسواق، ويشدُّ أوصال البادية إلى قلب الدولة، لكن هذا الكنز الطبيعي، الممنوح مجّانًا من رحم الأرض، يُهان من حين لآخر بسوء التدبير، وتُطعن كرامته في مؤسساتٍ ما وُجدت إلا لحمايته وتثمينه.
ليست المشكلة في ضعف الإمكانيات، بل في غياب الرؤية، وتفشي الفساد، وتحكم العقليات الإدارية البالية التي ترى في الثروة الحيوانية موردًا للنهب لا للتنمية، ذلك أن الفساد داخل هذا القطاع لم يعد تفصيلاً، بل هو القاعدة؛ وهو ما حول المؤسسات من أداة دعم إلى عائقٍ مزمنٍ في وجه تنمية قطاعٍ يُفترض أن يكون الرافعة الأولى للاقتصاد الوطني.
لقد بات من الضروري إنشاء هيئة مستقلة، ذات كفاءة، تعمل بشفافية، وتُشرك كافة الفاعلين الحقيقيين في الميدان:"المنمين، الأطباء البيطريين، المصدرين"، وكل من له صلة بهذا المورد الحيّ"، فإما أن تدار هذه الثروة بالعقل والحكمة، أو تترك تضيع كما ضاع غيرها، لتصبح موريتانيا بلد الثروة الحيوانية "الضائعة" !