
في سياق التحولات المؤسسية التي تعرفها موريتانيا، شكّل قطاع العدالة محورًا مركزيًا ضمن الجهود الإصلاحية الرامية إلى تعزيز دولة القانون وترسيخ مبدأ استقلال القضاء وفعاليته. ومن هنا جاءت مبادرة معالي وزير العدل، محمد محمود بن العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، لإطلاق مسار إصلاحي حقيقي وعميق، يستند إلى تشخيص علمي وواقعي لاختلالات المنظومة القضائية، ويتجه نحو حلول مؤسسية تضمن الاستمرارية والتطبيق الفعّال.
جاءت انطلاقة هذا المسار من خلال مساهمة قطاع العدل في مسلسل "أيام التشاور الوطني"، باعتباره إطارًا جامعًا للتفكير الجماعي حول أولويات الإصلاح. وقد اختار معالي الوزير كحمد محمود بن بيه مقاربة تشاركية تُبنى على مرتكزات مرجعية واضحة، استعرضها في وثيقة قدّمها لمجلس الوزراء، تشكل اليوم القاعدة المعرفية والإجرائية لرؤية تطويرية شاملة.
وفي هذا السياق، تقرر تشكيل لجنة توجيه وتحضير تشرف على ضبط المحاور، وتنسيق أعمال التشاور، مع التركيز على تجاوز المعالجات الظرفية السابقة والانطلاق في إصلاحات تتأسس على فهم دقيق لأسباب الاختلالات البنيوية، وعلى رأسها:
ضعف تأهيل العنصر البشري،
عدم كفاية الوسائل اللوجستية،
غياب استراتيجية إصلاحية متماسكة ومستدامة.
المنهجية المعتمدة رامت معالجة هذه الإشكالات من خلال برنامج متكامل يقوم على ثلاثة مستويات مترابطة:
تحسين أداء القضاة وتطوير قدراتهم من خلال التكوين والتقييم المستمر،
تحديث الإطار القانوني والتنظيمي بشكل يتناغم مع متطلبات المرحلة،
وإعادة هيكلة البنية المؤسسية للقطاع بما يضمن التنسيق الفعّال بين جميع مكوناته.
وقد شدّد الوزير على ضرورة أن تتسم هذه الاستراتيجية بقدر عالٍ من الواقعية والتدرج، وألّا تقع في فخ الإصلاحات المنقطعة أو الشعاراتية، التي طبعت تجارب سابقة. كما تم التأكيد على أن الهدف ليس فقط تحيين النصوص، بل أيضًا تطوير أداء المؤسسة القضائية باعتبارها ضمانة أساسية للحقوق والحريات.
الوثيقة الوطنية لإصلاح وتطوير العدالة، التي تم تقديمها خلال اجتماع مجلس الوزراء، تُعدّ خلاصة لعمل تشاوري واستقصائي واسع، شارك فيه خبراء ومهنيون، واستند إلى دراسات مقارنة وتجارب دولية. وهي تتضمن 152 إجراءً عمليًا موزعة على خمس سنوات، وتتبنى مقاربة شمولية تنظر إلى القضاء بوصفه نسقًا مترابطًا يشمل القضاة، كتاب الضبط، المهن المساعدة، والإدارة القضائية.
وقد تم بالفعل اتخاذ جملة من الإجراءات التنظيمية الرامية إلى تفعيل هذه الوثيقة، في انتظار مواصلة تنفيذ ما تبقّى من محاورها وفق جدول زمني واضح وآليات للمتابعة والتقييم.
إن ما يميز هذا المسار الإصلاحي هو الابتعاد عن المعالجات المجتزأة، والرهان على الاستدامة والفعالية، سواء من خلال التكوين المستمر، أو تعزيز استقلالية المؤسسات القضائية، أو تحسين الولوج إلى العدالة. ويبدو أن هذه الإصلاحات مرشحة لإحداث تحول نوعي في علاقة المواطن بالمؤسسة القضائية، بما يعزز الثقة في القضاء كمؤسسة سيادية، ويكرّس دور العدالة كرافعة للتنمية والاستقرار.