بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فيشعرُ بعضُ الناسِ بِحَيرَةٍ وقَلقٍ فيما يتعلقُ بقبولِ عبادتهِ ومعامَلتِهِ لربّهِ سبحانهُ وتعالى، بل تُساوِرُهِ شُكوكٌ من عدمِ قبولِ عَملِهِ، ويَتساءلُ عن ما يُطمئِنُ قلبَهُ ويَشرَحُ صدرهُ بهذا الخُصوصِ؟!
ومسألةُ قَبولِ العملِ من عَدَمِهِ لها علاقةٌ بالقضاءِ والقَدَر.. ولذلِكَ أقولُ ابتداءً: إنّ اللهَ عزّ وجلّ أرادَ بعبادِهِ شيئًا وأرادَ منهُم شيئًا؛ فما أرادَهُ الله تعالى بعبادِهِ من خيرٍ أو شرٍ أو غنًى أو فقرٍ أو صحّةٍ أو مرضٍ أو نجاحٍ أوفشلٍ أو قبولٍ للعملِ أو رَدِّهِ -العياذُ بالله تعالى- ونحوِ ذلكَ من الغيبِيّاتِ يُوكَلُ أمرُهُ إليهِ سبحانه، ولا يجوز للعبادِ الكلامُ في هذهِ الغيبيات أوِ الخوضُ فيها لأنها خاصّةٌ باللهِ تبارك وتعالى، ولا يُشارِكِهُ العِلمُ بحَقيقَتِها أحدٌ لقولهِ عزّ وجلّ: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [1البقرة:255].
وأمّا ما أرادَهُ اللهُ تعالى من عبادِهِ من توحيدٍ وعبادةٍ وفعلٍ للخيراتِ وتركٍ للمنكراتِ وإخلاصٍ لهُ في السرِّ والعلانِيَةِ ، وفي المَنشَطِ والمَكرَهِ ،والأخذِ بالأسبابِ في أمورِ الحياةِ كلِّها ، ونحوِ ذلكَ من الأعمالِ التِي طلبَ الشّارِعُ فِعلَها أوِ اجتِنابَها،فهذهِ الدائِرةُ هي مجالُ اختصاصِ العبادِ وأعمالِهِم ، لقولهِ تعالى:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:58- 56].
ولقوله سبحانه:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].
وانطلاقاً من هذهِ الحقائِقِ العَقَدِيَّةِ والفِقهِيَّةِ يتَّضِحُ لنا أنّ قبولَ الأعمالِ الصَّالِحَةِ من عَدَمِهِ مسألةٌ غيبِيّةٌ لا يعلمُها إلا اللهُ عزَّ وجلّ، ولا يُكشَفُ عنها إلا بعدَ الموتِ ، ويومَ العرضِ الأكبرِ على اللهِ عزَّ وجلّ.
ولكنَّ اللهَ تعالى أعطى عِبادَهُ المُؤمِنينَ مَوثِقاً حتى يَطمِئنُّوا في عِباداتِهِم ومُعامَلاتِهِم لقولهِ عزّ من قائل: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 8،7].
وقال سبحانه في الحديثِ القُدُسِيِّ:(يا عِبادي إنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجَعَلتُهُ بينكُم مُحَرَّماً فلا تظالمُوا)[رواه مسلم].
وحقيقَةُ الظُّلمِ وضعُ الشيءِ في غيرِ مَوضِعِهِ وهذا مُنافٍ للكمالِ والعَدلِ، فلذلِكَ نزَّهَ اللهُ تعالى نفسَهُ عنِ الظُّلمِ فقال:﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾[ق:29].
بَل قال اللهُِ جلَّ وعلا :(يا عبادي إنَّما هيَ أعمالُكُم أُحصِيها لكُم ثمّ أُوَفِّيكُم إيَّاها فَمَن وَجَدَ خيراً فليحمَدِ اللهَ ومن وجدَ غيرَ ذلِكَ فلا يَلومنّ إلا نفسَه). ثُمّ بشّرَ المُؤمنينَ بحُسنِ عاقِبَةِ عَمَلِهِم الصَّالِحِ فقالَ سبحانه: ﴿وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[التوبة: 111].
وشُروطُ العمَلِ الصالِحِ أربعةٌ كما ذكرها العُلماءُ، وهيَ:
1-النِّيَةُ .
2-والعِلمُ الشّرعِيُّ.
3-والإخلاصُ لوجهِ اللهِ تعالى.
4-والصَّبرُ.
وقد نظَّمها أحَدُهُم فقال:
وفَسِّرَنَّ صالِحَ الأعمالِ***
بجامِعٍ لهذهِ الخِصالِ***
العِلمُ والنّيةُ والإخلاص***
والصَّبرُ ليس عنهُ من مَناص***
فإِذا توفَّرَت هذِهِ الشُّروطُ الأربعةُ في العملِ يوصَفُ بأنّهُ عملٌ صالِحٌ ولكِن تبقى إشكالِيَّةُ القبولِ لهُ!.
ولهذا يبقى المُؤمِنُ خائفاً وَجِلاً من عدمِ قبولِ عملِهِ . وذلكَ مِصداقاً لقولِهِ تعالى:﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعون﴾ [المؤمنون: 60].
وهذهِ حالةُ المؤمنينَ الصّادِقينَ معَ ربِّهِم عبرَ العُصور؛ فكانوا يتّقونَ اللهَ تعالى ويعبُدونَهُ ويتَقرَّبونَ إليهِ بالصّالحاتِ وهُم وَجِلونَ ألا يُتقبَّل منهُم،لخوفِهِم أن يكونوا قد قصَّروا في تحقِيقِ شروطِ القَبولِ. وهذا من بابِ الإشفاقِ والاِحتِياطِ، ولذلك كان سيِّدُنا عمر رضي اللهُ عنه دائِمَ الحُزنِ كثيرَ البكاءِ على نفسهِ؛ وعندما يُذكِّرُهُ الناسُ بِحُسنِ صُحبَتِهِ وجميلِ مواقِفِهِ، ويُذكِّرونَهُ بِبِشارَةِ رسولِ الله صلى الله عليهِ وآلهِ وسلمَ لهُ بالجنَّةِ ضِمنَ من بَشّرهُم بها! يقولُ : (أخشى أن تكونَ تلكَ البِشارةُ مُعَلَّقةً بشَرطٍ لم يفعَلهُ عمر!!)،وكذلكَ كان حالُ الصحابةِ من أهلِ البيتِ وغيرِهِم رضي اللهُ عنهم أجمعين.
وقد بيّنَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وآله وسلمَ هذا المعنى لأُمِّنا عائشةَ رضي الله عنها حينَ سألتهُ قائلةً: يا رسولَ الله.. قال اللهُ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ الآية،
هوَ الذي يسرِقُ ويزنِي ويَشرَبُ الخمرَ، وهُوَ يخافُ اللهَ عزّ وجلّ؟ قال:(لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولكنَّهُم الذينَ يُصلّونَ ويَصومونَ ويتصَدَّقونَ ، وهُم يَخافونَ ألا يُقبَلَ مِنهُم)[رواه التِّرمذي].
ولهذا قال الإمامُ الحسنُ البصريُّ رحمهُ اللهُ تعالى: "إنّ المُؤمِنَ جَمَعَ إحساناً وشفقةً، وإنّ الكافِرَ جَمَعَ إساءَةً وأمناً" [ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 258/3].
ويَتلخَّصُ لنا من هذِهِ المباحِثِ أنّ خَوفَ المُؤمِنِ مِن عَدَمِ قبولِ عَمَلِهِ ظاهِرَةٌ طبيعِيَّةٌ ، وصِفَةٌ لازِمِةٌ لأهلِ الإيمانِ الصَّادِقِ ، وأصحابِ العَمَلِ الصّالحِ.
ولعلَّها مِنحَةٌ مِنَ اللهِ تعالى لعبادِهِ الصَّالحينَ حتى يكونَ ذلكَ مُحفِّزاً لهُم على تحَرِّي الإخلاصَ في نيّاتِهمِ، والازديادِ مِنَ الأعمالِ الصّالحِةِ مَدى حياتِهِم حتى يَلقَوا ربَّهُم سُبحانهُ وتعالى وهُم على تلكَ الحالةِ مِنَ الخوفِ والرَّجاءِ تحقيقاً لقولهِ عزّ وجلّ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾[الحجر:9] أي: الموتُ.
ويحسن ذكر بعض الأمارات التي يستأنس بها في قبول العمل:
1- الاستقامة على الحق ، والثبات عليه لقول الله عز وجل:( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) [المائدة:27].
2- الازدياد من الأعمال الصالحة ، والمواظبة عليها
لقوله تعالى:
( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب) [الشرح:8،7].
3- الخوف من رد العمل ، وصيانته عن الرياء والسمعة والغرور لقوله عز من قائل:
( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) [البينة:5].
4- الرجاء وكثرة الدعاء بالقبول لقوله تعالى:
( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [البقرة:127].
5- التوفيق للطاعات ، وانشراح الصدر لها ، وترك المعاصي وكرهها لقوله تعالى:
( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) [الحجرات:7].
6- وحب الصالحين وصحبتهم لقوله سبحانه:
( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) [الكهف:28].
7- لزوم التوبة تحقيقا لا تعليقا لقوله جل وعلا:
( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهاَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [النور: 31].
هذا ما تيسّرَ بيانُهُ وَنسألُ اللهَ تعالى التوفيقَ والقَبولَ.
وصلِّ اللهُمّ وسلم على نبيّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.