لعله من المثير للجدل أو التساؤل أن يكتب كاتب أو يتناول باحث عملا بحثيا حول المفهوم الحزبي أو الدور المطلوب منه، وسبب التساؤل وجيه وهو أن الوقت المناسب للبحث والكتابة عن الموضوع هو فترة المطالبة بترخيص الأحزاب ومصاحبتها لأن الناس في تلك الفترة يحتاجون إلى تنوير في الموضوع، لكن ذلك لا يمنع أن يواكب العمل الحزب اقتراحا وإرشادا ونقدا للمساهمة في تصحيح المسار وإنضاج التجربة.
وحين يكون هذا الأخير هو موضع الكتابة نجد أننا لسنا في وارد بحث مشروعية الانخراط في الأحزاب، إلا إذ كان ذلك من باب التذكير وقد طال الأمد على الممارسين، وللحسم في هذا المجال يحتاج المتناول للموضوع إلى أمرين: التضلع في العلوم الشرعية لأن الأمر يتعلق بوافد جديد، أو أن يكون الكاتب مطلعا على أمثلة من التاريخ.
ومن هذا الباب أردت من خلال اطلاعي القاصر على تراث الأمة أن أبيّن أن الجدّة قد تتسبب أحيانا في الرفض والتحرير أحايين أخرى، وقليلا ما تكون، وبالتالي الرفض للجديد دائما لا يكفي للتحريم والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها جمع القرآن في مصحف واحد، وقد أدى إلى تباين الآراء، وما إن شرح الله صدر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلـم للأمر حتى حسم الخلاف. وكان تنقيط المصحف عند البعض تحريفا وشنّع في القول ثم حسم الخلاف والحمد لله ، وظل الجديد دائما محل خلاف ومنها تعلم علم المنطق وسالت فيه أقلام، وأصدرت فيه فتاوى منعا وقبولا، ونظم فيه المختار ولد بونه ألفيته الشهيرة ومما ذكر فيها:
فإن تقل حرمه النواوي ... وابن الصلاح والسيوطي الراوي
قلت نرى الأقوال في المخالفه ... محلها ما صنف الفلاسفه
أما الذي خلصه من أسلما ... لا بد أن يعلم عند العلما
ولعل هذا انطبق تماما على الأحزاب السياسية، ومروا بالرفض والمنع عند البعض ثم الحسم لصالح الجواز، فانخرط الناس فيهم من العلمانيين إلى العقائديين. فما هي الصعوبات التي تعترض عملهم؟ وما المنتظر منهم؟ وما هي أبرز الملاحظات على التجربة؟
ونحن نستعرض الحالة الموريتانية لا يخفى علينا الكم الهائل من العوائق أمام العمل الحزبي من أبرزه خصوصية الشعب الموريتاني كالإفراط في الانفتاح دون أسباب موضوعية، والنجعة أمر روتيني، ومن العوائق الجدّة على المؤسسية وعدم القدرة على إدارة تباين الآراء في الإطار الواحد، والمطامع الشخصية لدى الطبقة الوسطى من المثقفين الذين يفترض أن يساهموا في إنجاح التجربة الحزبية، وبدلا من ذلك يفضلون المكاسب الشخصية، وهي خطوة سلبية ساهمت كثيرا في تشويه التجربة، فتراهم لا يلتحقون بحزب إلا لتشريع ترشحهم في ظل منع الترشيح الحر، ومع هذا يبقى المنتظر من الأحزاب كبير، لاسيما أنهم بديل عن إطار تليد، ألفه الناس منذ قرون بإيجابياته وسلبياته (القبيلة) وكانت الحاجة إليه ملحة وتشتد كثيرا في بلاد السيبة، وفجأة ودون تمهيد أخذ قرار بالاستغناء عنه وإحلال وافد جديد محله (الحزب) مع أن الاسمان واردان في القرآن الكريم {إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} ، {إن حزب الله هم الغالبون} واختراق الجديد للقديم والحذر من الاحتكاك به من أبرز عوائق العمل الحزبي أيضا، وما زال صعبا حتى على الدولة.
ورغم هذا كله الرسالة الحزبية يجب أن تصل وأهدافه تتحقق، وهي أن ينتظم كم كبير في إطار واحد بعيدا عن تباينهم في اللون واللسان والمكان بتطبيق منطلقات يؤمنون بها ورؤية اتفقوا عليها بكل جوانبها (سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية).
ومما يساهم إيجابا في النجاح تطبيق المطالب الحزبية للدولة داخل الحزب نفسه ، كالتغيير والتوزيع العادل للثروة وتمكين المرء من إيجاد ذاته في الحزب كما يطالب أن يجدها في الدولة، وذلك عائد إلى أمرين:
أولا امتثال المرء لما يطالب الآخرين به أمر شرعي {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} والثاني أنه محض المصلحة لتجربة وليدة في بيئة صعبة ومعقدة، والتغيير أقرب إلى مزاجها وزمنها وترغب فيه النفوس انطلاقا من دوافع ذاتية لما يفتحه من آفاق أمامها، والتوزيع العادل للثروة الحزبية عائد لا محالة بالمصلحة على المؤسسة والفرد، وقد يسأل سائل هل للحزب ثروة، والسبب أن كلمة الثروة تحيل حصرا إلى المعادن، قلت بحسب كل مؤسسة توجد، فكما أن للدولة ثروة وللفرد ثروة مادية أو علمية فإن للحزب ثروة أيضا كالترميز والتكوين والتجربة والمناصب الانتخابية، وتوزيعها كفيل بالتماسك وتكديسها كفيل بالتفكك.
وقد يقول قائل أن الخبرة التراكمية مهمة للأحزاب لكنه أيضا تكديس لثروة حزبية، وقد قال الله تعالى في شأن المال {لكي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم} وقال المفسرون أن خصوص الأسباب لا تمنع عموم الألفاظ، والمال قيمة من مجموعة قيم، وقال الله فيه {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما} فكيف يتم الفصل بين القيم المعنوية التي تنتج طبقة معزولة عن غيرها إذ تحدث بذلك تراتبية حزبية تطالب الأحزاب عادة بمعالجتها في المجتمع، فتقع في خطإ لطالما حذر منه أمير المؤمنين عمر الذي عزل خالدا بن الوليد لا لطعن فيه وإنما خوفا من أن يفتتن الناس بسيفه.