كتاب: "موريتانيا إلى أين" للباحث د.بدي أبنو، يُنشر في حلقات أيام الإثنين والخميس
ــــــــــــــــــ
الحلقة الثانية :
من سيـــنـــــــلـــوي إلى كــــــــديــــة الجـلـد
يَتداولُ بعض المتعاونين الفرنسيين المعنيين بموريتانيا رواية لا تخلو من دلالة كثيفة سواء كانت صحيحة في ذاتها أو مصاغة لغرضٍ ما.
واستعادةً للسياق الذي تشيرُ إليه الرواية، لنستحضِرْ أن الرئيس الفرنسي السابق الجنرال دغول كان مهتماً إلى حدٍّ معين في أواخر الخمسينات بمصير صحراء الساحل الافريقي بمختلف أجزائها الحالية. وكانت، كما هو معروف، فكرةُ تأسيس دولة الصحراء الكبرى مطروحةً فرنسياً، بين مقترحات أخرى منافسِة، لـ"لتخلص" منها قانونياً، كما من أكثر المستعمرات، في سبيل تجميع الجهد والتركيز على قضايا معينة كالاحتفاظ بالجزائر.
ولنتذكّرْ أيضاً أن بعض المناطق الصحراوية مثّلتْ، خلال مراحل معينة، قاعدةً خلفية لما يَحدثُ في الشمال المتوسّطي. ويزيدُ الأمر تعقيدا أنه كان لفرنسا آنذاك قواعد تجريب نووية في جنوب الجزائر.
وتزعم الحكاية أن الجنرال دغول كلّف حينها مستشاره الغامض جاك فوكار بتحضير إيعاز في الموضوع، وأن الأخيرَ قدّم مقترحا يضمّ خريطة موريتانيا الحالية. حينها، تضيف الرواية، التفتَ الجنرال إلى مستشاره:
- هل هذا الشيء جادّ السيد فوكار؟
- على كلٍّ فإن التجربة تستحقّ منا أن نحاول أيها الجنرال.
- لنحاولها إذاً.
وبالرغم ممّا تحمله هذه الرواية من دلالات رمزية كثيفة ووجيهة على أكثر من صعيد فإن الإرشيف الفرنسي المتعلّق بتلك المرحلة - والذي أصبح في السنوات الأخيرة متوفراً بنسبة معتبرة - يَسمحُ بتمحيصها وبتعديلها عبر معطيات أكثر دقّة. ويسمحُ بشكل خاصّ بفهم إصرار السلطة الدغولية على إنشاء الدولة الموريتانية في حدودها الحالية، فيما يتجاوز بكثير "التلقائية" و"البراءة" اللّتين قد تحيلُ إليهما تلك الرواية أو بعض تأويلاتها المحتملة.
يبدو من غير العسير، اعتماداً على وثائق تلك المرحلة، إثبات وجود لوبيات حكومية واقتصادية مقرّبة من الرئيس دغول كانت تصرّ بقوة بلْ ربّما بشراسة، بين أشياء أخرى كثيرة طبعا، على إنشاء الدلة الموريتانية كمشروع دولة ريعية منجمية.
فقد اعتبرتْ الشركات الفرنسية على الأقل منذ مطلع الخمسينات أنّ مستعمرة موريتانيا تتمتّع بثروة منجمية عالية الجودة وسهلة التصدير والتسويق وأنه يلزم تبعا لذلك إبقاؤها أو إيجادها كوحدة ترابية تحت رعاية الشركات المعنية.
وإذا قارنّا عددا من الوثائق المتوفرة حاليا(1) ندركُ أنّ بعض الشر كــــــات الفرنسية قد أصرّتْ (أو أصرّ من ترجموا إرادتها سياسياً) مع موجة الاستقلالات أواخر الخمسينات على تكوين موريتانيا في صيغتها وفي رسمها الجغرافي الحالي تقريبا (إذا وضعنا جانباً بعض "التفاصيل" الحدودية) وخطّطتْ لذلك بطريقة لا تختلف جذرياً عن تلك التي خطّطتْ بها الشركات البريطانية والأمريكية لإنشاء بعض دول الخليج(2) . ولم يكن ذلك طبعا العامل الوحيد في إصرار السلطات الفرنسية على تكوين الدولة الموريتانية بصيغتها الموروثة ولكنّه بالتأكيد كان العامل الرئيس.
كانت المراهنة على تأسيس الدولة الموريتانية بهذا المعنى هي مراهنة اقتصادية جيوستراتيجية. وهي، من حيث هي مراهنة اقتصادية، تعني - كما هو الحال بالنسبة لدول أخرى في العالم الثالث - تشكيلَ دولةِ موادِّ خام، أيْ تشكيل دولةٍ من أجل "جبل الحديد" كما تقول الصيغة الشائعة. تعني بهذا المقتضى العملَ على إنشاء دولةٍ مرادفة جوهريا لشركة (أو شركات) تجارية لتصدير المواد الخام وعرَضا دولة حشود استهلاكية، دولةٍ مطابقةِ لشركة (شركات) تصدير تُمثِّلُ امتدادا محليا لشركات دولية .
عنيَ ذلك تاريخياً أنه إذا كان الاستعمار قد اهتمَّ بالغرب الصحراوي و، في الحالة التي نحن بصددها، بما سمّاه "موريتانيا الحديثة" كمنطقة "خالية" وَعِرة و"غير نافعة" يلزمُ الاهتمامُ بها فقط لأسباب عسكرية(3)، أي يلزم الاهتمام بها أمنياً ليس لما تعنيه ذاتياً ولكن لما يعنيه غيْرُها المحيطُ بها، فإنّ ما يمكن أن نسميه بالاستقلال الاستعماري اهتمَّ بها لأنّه اعتبر أنها ستصبح "نافعة" أو صوّرها، لسبب أو آخر، باعتبارها ستسمح بتحويل "جبل الحديد" إلى "جبل ريع".
وتبعاً لذلك نفهم مستوًى ما من الخلفية الدلالية لحديثٍ مشهور للمرحوم المختار ولد داداه في مقابلة تلفزيونية سنة 1959عن "سويسرا الافريقية" التي ستولد كـ"بلد منجمي" و لكن أيضا التي قد لا تولد أو لن تولد إذا لم تكن الثروة المنجمية بالحجم المطلوب، بحسب تعبيره القلِق في المقابلة نفسها.
التخوف الذي عبّرَ عنه الرئيس الراحل من أن حجم الريع المنجمي قد لا يكون في تلك الحقبة التاريخية بالحجم الضخم الذي أكّدتْه له مصادره الكولونيالية ظهرَ منذ الستينات أنه تخوفٌ في محله، وهي خيبة عبّرَ عنها هو نفسه أكثر من مرّة. فقدْ راهن الرئيس المختار، وراهنتْ معه على ما يبدو فرنسا الرسمية(4) في مستوى معيّن، على حجْم تصدير المناجم بالدرجة التي جعلتْه كما رأينا - سنةً قبل ما سُمي بالاستقلال - يَعتبرُ هذا الريع شرطاً وجودياً مطلقاً لقيام الدولة الموريتانية: "إن لمْ تَـرَ مناجمُنا في ‘حصن غورو‘ النورَ فإنّ موريتانيا، أقولُها لكم بشعورٍ كبيرٍ بالمرارة، لن تنشأ"(5) . وفِي ذلك، استطراداً، ما قد يشرح جزءا من الخلفيات التي ستقفُ لا حقاً خلف عدد من الأحداث بما فيه جزء من العوامل التي قادت إلى اندلاع حرب الصحراء.
ما الذي يُفسِّر هذه الخيبة التأسيسية التي عنيتْ ظهورَ كيانٍ وُرثَ عن الاستعمار كمشروع دولة ريعٍ ليصبحَ منذ البداية دولة ريعية بلا ريع، أو بريع جدّ محدود لا يقترب من التقديرات التي سوّغتْ بها الشركاتُ والإدارة الاستعمارية مشروعَ الدولة الريعية. هل تعني تلك الخيبة أن الشركات المنجمية راجعتْ بعد "الاستقلال" تقديراتِها لأسباب فنية ميدانية أو تعني أنها راجعتْها لأسباب سياسية وجيوستراتيجية؟ أم أنّها أصلا كانت قد بالغت عمداً، لغايةٍ ما، في تقديراتها المسرّبة للرئيس المختار ولبعض رفاقه أو المسّربة لغيرهم مثلا في أروقة السلطة الفرنسية؟
يمكن طبعا تأويل هذا المعطى بطرق مختلفة، ولكنّ تخوّفَ الرئيس المختار الذي عبّرَ عنه قبل ما سُمّي بالاستقلال بسنة وخيبته التي قال في مذكراته إنها مثلتْ صدمته أو إحدى صدماته الكبرى بعد "الاستقلال" عنيا تاريخياً تخوفا وخيبة تأسيسيتين ترجمتا ولادة دولةٍ مدانَة "جينياً" أو "انتلوجياً" بأن تكون دولة ريعية، ولكنها إدانة مع وقف التنفيذ.
(1) لقدْ أصبحتْ راهنياً وثائقُ كثيرة مهمّة في هذا السياق في متناول الباحثين. ولعلّ من أكثرها دلالة فيما نشير إليه هنا وثائق جاك فوكار التي كانت مخفية والتي حصلتْ عليها الإرشيفات الوطنية الفرنسية بعد رحيل الأخير سنة 1997.
(2)يذكر فيكتور ماربو (الذي عمل في موريتانيا كمدير عام للتعليم في الفترة 1961 - 1964) في دراسة عن شركة ميفيرما منشورة سنة 1965 في المجلة الفرنسية "حوليات الجغرافيا" أنَّ اكتشاف الحديد في شمال موريتانيا وتحديداً في ّكدية الجلد" يعود إلى بداية القرن العشرين (وقبل ذلك بكثير كان أمر "جبل الحديد" معروفا بنسبة معينة للسكان المحليين ولبعض الرحالة). ويذكرُ أن بعثة من الجيولوجيين الفرنسيين قد استُـقدمتْ من دكار سنة 1935 (أشهُرا بعد ما تسميه الأدبيات الاستعمارية باستكمال بسْط التأمين) لتحديد حقل المنجم. وعرفتْ أواخرُ الأربعينات بداية المنافسة الدولية عندما قامتْ شركةThe Bethlehem Steel Corporation، التي كانت حينها ثاني أكبر شركة أمريكية مختصة في الفولاذ (أفلستْ سنة 2001)، بإرسال بعثةَ إلى حصن غوروFort-Gouraud (افديرك). ثمّ أخذ الزخمُ بُعداً أكبر مع نشوء شركة معادن حديد موريتانيا (ميفيرما) سنة 1952 (Victor Marbeau, « Les Mines de fer de Mauritanie M. I. F. E. R. M. A. », Annales de Géographie, 1965, pp. 175-193.).
(3)إعلان موريتانيا كمستعمرة بشخصية قانونية سنة1920 أثار جدلا وخلافا داخلَ الأوساط الاستعمارية، بين من يريدونها بصفتها هذه داخل "إفريقيا الغربية الفرنسية" ومنْ يعتبرونها، كالماريشال ليوتي، جزءا من السلطنة المغربية التي كانت حينها تحت الحماية الفرنسية (لا تخفى المرامي التاريخية للذين سموها ككزافيي كبولاني "موريتانيا الحديثة" ثمّ "موريتانيا"). وعموم الأطروحات المتضاربة التي عادت إلى الواجهة في أواخر الخمسينات حول علاقة موريتانيا بفضاء الحكم العلوي: تأييداً لكونها فضاء مختلفاً تاريخياً أو ضدّياً جزءاً تاريخياً من السلطنة، هي في الحقيقة في جانبيها المؤيد والمعارض معاً ذات منشأ استعماري، أيْ أنها استمرارٌ لجدل فرنسي ـ فرنسي. وكان طرفاه، "المغربي" و"الموريتاني"، يوظفان ما وجداه "جاهزاً" في الأدبيات الاستعمارية الفرنسية. وحتى المرحوم علّال الفاسي الذي لم يكن اطّلاعه، عكساً للعديد من رفاقه، محصوراً في المصادر الفرنسية، فإنّ الراجح أنه اعتمد أساساً فيما يتعلق بأطروحاته حول رسم حدود المغرب الأقصى على المصادر الاستعمارية الفرنسية. بلْ إن النظام الدغولي وظّف في الحقيقة الأطروحتين الاستعماريتين: فكما أصرّ من جهة إصراراً كبيراً بديهيا على إنشاء موريتانيا في حدودها الحالية فإنه لم يكن أيضا بعيداً عن مطالب المملكة بلْ يمكن أنْ يقال بوجاهة عن المطالب المغربية إنها كانت جوهرياً مطالب فرنسية، وكانت "مفيدة" في تحقيق جوانب معينة من المشروع الدغولي في المنطقة بما فيه إنشاء الدولة الموريتانية و”مفيدةً” بشكلٍ خاصّ في تحفيز "الموريتانيين" و"المغاربة" على تبني الحدود الموروثة عن الإستعمار. وهنالك روياتان موثّقتان (وإن كان من الصعب الحسم في أصلهما الفعلي وفي دلالتهما غير الحرْفية) من محيط الجنرال دغول تشيران إلى أنّ الرئيس الفرنسي لم يكن يعتقد أن موريتانيا قابلة للبقاء طويلا ولكنه يرى أنّ "مصلحة فرنسا" تقتضي أن "تبقى موريتانيا أطول فترة ممكنة" (حسب العبارات التي نقلها أحد مقرّيه ألين بيرفيت). لنذكّرْ بأنّ هنالك أطرافا فرنسية غير بعيدة عن الجنرال دغول كانت تعارض إنشاء الدولة الموريتانية، وأن بعضها كان يميل إلى إنشاء مستعمرات كبيرة على الطريقة البريطانية. وطبعاً لم تكن هذه المرة الأولى ولا الأخيرة التي تعرفُ فيها السياسة الدولية ظاهرة ازدواجية دعم طرف تزامنياً لأطروحتين متضاربتين.
(4)حتّى قبل أن يعود إلى السلطة سنة 1958، كان الجنرال دغول بالغَ الاهتمام بـما سميَ كنايةً بـ"جبل الحديد" (لمْ أعرف إلى حدّ الساعة ما هو أو منْ هو المصدر "الأول" لهذا التعبير الذي راجَ في عددٍ من الأدبيات باللغتين العربية والفرنسية). فقدْ زار سنة 1957 الحصنَ الذي سمّاه الفرنسيون باسم الجنرال غورو (فديرك). وصعدَ كدية الجلد. وتنسبُ له وثائق فرنسية كثيرة أنّه عندما وصلَ قمّة "الكدية" قال:"إنه دائماً في المناظر العظيمة تُنجَز الأشياء العظيمة (C’est toujours dans les grands paysages qu’on fait les grandes choses) ". ورغم أنه من العسير التأكد من صدقِ مثلِ هذه المرويات، التي تُردّد عادة بنفَس خرافي، فإنّ ولعَ دغول بالمشهدَة المكثّفة ذات المغزى السياسي ينسجمُ مع ما تلمّح إليه هذه الرواية. هلْ كان فعلا الجنرال الفرنسي يعتقد من خلال ما أوحتْ له به الشركات الفرنسية أنّ "أكثر مستعمرات غرب إفريقيا الفرنسي فقراً وآخرها حصولاً على الاستقلال" ستصبح دولة ريعية ثرية عبر "جبل الحديد"؟ ذلك ما لمّح له بشكلٍ شبه صريحٍ في عدّة مناسبات (على الأقلّ في خمس مناسبات). ولكنْ في جميع الأحوال فإن ما تحقّق لاحقا عندما أصبحتْ موريتانيا في السبعينيات رابع مورّد للحديد إلى أوربا ينسجم إلى حدٍّ كبير مع مشروع فرنسا الذي صيغتْ خطوطُه العريضة غداة الحرب الكونية الثانية والذي سعى إلى تطوير مصادر المناجم (الحديد بشكلٍ خاص) والطاقة في مستعمراتها. ولكن ريعه المحدود نسبياً لا ينسجم بالتأكيد مع ما كان يعتقده شركاؤهم الموريتانيون خلال إنشاء الدولة. يمكن الاطلاع في هذا الخصوص على الشهادات التي وردتْ مثلا في كتاب الملفّ الموريتاني: Attilio Gaudio, Le dossier de la Mauritanie, Paris, Nouvelles Editions Latines, 1978.
(5) يمكن الاطلاع على فقرات من المقابلة، تضمّ العبارات التي نقلنا هنا، في الرابطين (https://www.youtube.com/watch?v=Ew5MnJsKC3g) و (https://www.youtube.com/watch?v=2BHdTnnz41o).