عُرف مفهوم “التَّقية” في حقل العلوم الدينية ، المرتبطة بنقاش العقائد الإيمانية. ومبعثُها في الدلالة اللغوية: “مُصانعةُ الناس والتظاهر بغير ما يُعتقد خوفا من البطش”. غير أنه لا ضير في توسيع دائرة المفهوم ؛ لاستخدامه في حقول معارفية وفكرية مُغايرة ، ولم لا ؛ في حقل السياسة ؟!.
فنحن نمارس التقية السياسية حينما لا نراعي ظروف الواقع الجماهيري في حالتي المد والجزر! ونمارسها حين نتجاهل الأزمات الجوهرية التي تهدد الشخصية الاعتبارية للكيان التنظيمي ! ونمارسها عندما نوهم الجماهير بالعودة إلى الإطار الفكري الذي يجمع شتات القوى الجماهيرية ؛ بعد أن كنا قد وضعنا الأقدام خارجه ، وشكلنا قطيعة مع الأدبيات العقائدية التي تشكل أدلجة التنظيم ! ونمارسها بشكل أبشع حين نعتقد و/أو نظن أن الجماهير غافلة عن كل ذلك ؛ ونستمر في تشغيل لعبة التغافل التي لا تليق بالقوى الثورية التي تبني مجموع أهدافها الاستيراتيجية على مبدأ الشفافية ، والمصالحة مع الذوات النضالية داخل التنظيم ؛ لكونها الحامل المادي ومركز القوة في مسيرة تحقيق تلك الأهداف.
إذا دعونا نحاجج من داخل الأنماط المعرفاتية ؛ بأن هذا المصطلح لا ينبغي أن يُقصر في إطار الحقول المعرفية المرتبطة بالسرديات الدينية ، فالسياسة في نهاية المطاف في حيزنا الترابي المنسي من سفر التأريخ مبنية على بنى طبقاتية مهيمنة من بينها الدين كحامل عقائدي ، يُوظف من قبل رجالاته لتكريس الهيمنة الفوقية للقوى المسيطرة على الشعب. والتي نعمل كقوى يسارية على إزالتها من نقاش الحياة العامة في دوائر ما يمس إشباع حاجات الناس المُؤداة من طرف المرافق العمومية والشخوص الاعتبارية التي ينبغي أن تكون ملكا للعموم ، لا حصرا لنفع الخصوص ؛ تحت ذرائع واهية ومتهافتة.
وفي مواصلة للتوسع المفاهيمي؛ لا مانع لدي في إسقاط ذلك على الواقع السياسي لقوى اليسار؛ ليشمل مفهوم “التقية اليسارية”، وهذه نعرفها تاليا بأنها تلك: < التي تَستبطِنُ غير ما تُظهر، وتَستظهِرُ غير ما تُبطن، تستغفل عموم جماهير الشعب ، وخصوص جماهير التنظيم >. وهي بنظرنا إذا تتجاهل وسائل التحليل المادي، وتقفز خطوات على الواقع، ولا تحاول استشراف النتائج ، كما لا تأبه بابتداع الحلول. غير أنها بدلا عن ذلك ؛ تحشر نفسها في الزاوية التي تُقدم “ثلاثية” للمشهد السياسي ، وتستكين للأمر الواقع الذي يكون غالبا مفروضا بأدوات الخصوم المشروعة وغير المشروعة.
ربما نسيت بقايا اليسار اليوم أن ما يميز المنهج الماركسي؛ هو آلية (الديالكتيك المادي) التي تميزه عن أي نظرية سياسية أخرى، وبالتالي لا يستساغ أي تحليل يساري دون إعمال هذه الآلية ، وهذه لا يمكن أن تعمل دون الانطلاق من أن واقع الحياة العامة مرن وسريع التطور ولا يمكن أن يكون جامدا ، محصورا بين خيارات ألف أو باء أو جيم..!
والرجوع للواقع السياسي اليوم يتطلب الكثير من التركيز وإمعان النظر ونبذ التسرع والأهم من كل ذلك الوعي الفردي والجماعي بأن الفيصل النهائي هو للقناعات المبنية على رؤى تحليلية، وحضور لمنسوب الضمير المبادئي الذي هو الرصيد الباقي من كل هذه الظرفية المغلفة بالكثير من المتناقضات السياسية التي نتفهم بالضرورة صعوبة الحسم اتجاه فك الارتباط بين كل التناقضات داخل وحداتها الخاصة والعامة. بيد أن ذلك لا يستدعي عدم الحسم نهائيا إذا كانت المبادئ والقيم الثورية حاضرة ، مع الكثير من إعطاء الاعتبار للمستقبل السياسي لقوى اليسار التي يتم العمل على تكثيرها على نحو استشرافي يمكن من ترجمة مشروع التغيير إلى واقع معاش يخرج البلد من حال الارتهان لكل السرديات الرجعية ، ويوطد ركائز أسس الدولة المدنية.
إن الجماهير الثورية لا تحتاج للتنويم أكثر مما هي منومة الآن بإيهامها أن الواقع يتطلب المزيد من المسايرة ، والتماهي مع كتل التناقض هذه. على العكس؛ إذ تتطلب المرحلة الراهنة عدم القفز على المراحل التاريخية ، ومعالجة الأشكال المرضية للتنظيم بالمهدئات المؤقتة بدل الحسم انطلاقا من حتمية الصراع وتفعيلا لمبدأ الشفافية.
وختاما فإن اللحظة باعتقادي تتطلب تجسيد ما هو دارج في أدبيات الموروث الثقافي المحلي ؛ على اعتبار أن الحديد لا يلين بالضرب إلا وهو حَامٍ..!