قد أيقظت الأحداث الأخيرة في مصر قبيل الاقتراع الرئاسي –الخوف المشروع من إمكانية إجهاض الربيع العربي أو التغيير السلمي المنشود برمته . وأن ما حدث من نجاح مرسي قد يلوح بأمل في محاولة استكمال المسيرة المرهقة الحساسة نحو الحرية والعدالة والتنمية وتجسيد المنهاج الإسلامي الشامل ، ولو بدون إعلان تفاديا لأراجيف العلمانيين ، حول جدلية دينية الدولة
او مدنيتها . إن نجاح مرسي لايعني نهاية المعركة ، وإنما فحسب بدايتها العسيرة على الأرجح ، بإذن الله ومشيئته ، ستكون الغلبة للحق وحده سبحانه وتعالى ، وهو القائل " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذ كر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
لكن هذه المعركة لن تكون سهلة على وجه العموم ، سواء في مصر أو غيرها . لقد أدت أحداث مصر الأخيرة ، خصوصا منذ يوم الخميس 15/6/2012 إبان صدور قرار المحكمة الدستورية المثير إلى جملة مخاطر محدقة على راس الثورة المصرية بالدرجة الأولى ، وسائر مشاريع الثورات القائمة أو المحتملة في عموم الوطن العربي . فقد ظهر جليا أن المؤسسة العسكرية المصرية وغيرها من مكونات النظام الآفل، لن تستسلم بسهولة لتحدي السقوط النهائي ، وهي مستعدة – وبنفس طويل مدعوم خارجيا وداخليا – لمزيد من المناورات والمؤامرات البسيطة أحيانا ، والمركبة المعقدة في أحايين أكثر.
وهذا الجزء المثير المهم من الدرس الانتخابي المصري ينبغي أن يحاول غير المصريين فهمه ومحاولة الاستفادة منه. فالعسكر لن يتركوا منافع السلطة المغتصبة وثمارها الحرام أو المشبوهة على الأقل بسهولة ،فولد عبد العزيز وصحبه المحترفون في سرقة النياشين الجوفاء والمال العمومي ، لن يغادروا مراكز القرار والقيادة مجانا ، ولن ينقلب أحدهم ليسلم الأمر للمدنيين – دون مراوغة خطيرة - رغم أنهم أصحاب الاختصاص الأول في العمل السياسي. هؤلاء العسكر عندنا فشلوا في حرب الصحراء ولكن لم يفشلوا في إزاحة المدني الحاكم من مقعده الرئاسي ،ومن يوم أن ذاقوا طعم السلطة ، مازالوا مصرين على البقاء ، بطرق وشعارات مختلفة ومتنوعة ، حسب ضرورات المرحلة ،ولم يعدم العسكر من حين لآخر ، حلفاء أقوياء من المدنيين، لتعزيز طموحهم ، المغلف بالحيل والمكر وصنوف الترهيب والترغيب. وبعد فشلهم الذريع في حرب القاعدة ، وخسائرهم الواسعة المكتومة في هذه الحرب بالوكالة ، لم يفشلوا في خلق وتأجيج معركة "الكتب الفقهية "من حدث شاذ معزول ، إلى حيلة مكشوفة للإلهاء عن بداية مشوار الاحتجاجات السلمية، متحولين إلى قمع المسالمين الرافضين للاستبداد وتبديد المال العام وديمومة حكم العسكر ، ومتجهين إلى دفة إدارة الأحداث الجارية بأسلوب يوحي بقرب الانزلاق – لا قدر الله - لحرب أهلية ، إن لم تتدارك الأمور قبل فوات الأوان . هؤلاء على وجه العموم ، والانقلابيون منهم على وجه الخصوص ،لن يساهموا- دون ضغوط قوية - في مجرد التفكير ، صوب التناوب السلمي الحضاري، بأقل الخسائر والمخاطر الممكنة. ولن يغادروا الميدان الانتخابي والسياسي قريبا ، فمنهم من يرقب الأحداث في الخارج ، وبتحالف عربي وغربي غير معلن ، مثل الرئيس السابق معاوية ولد سيد حمد الطايع ، ومنهم من يحلم باللعب على أذقان الموريتانيين، عبر بوابة المنسقية ، لتكون تركة وورثة من إبن عم إلى آخر ، مثل ما يملأ صدر المتلاعب بالمال العام العقيد السابق إعل ولد محمد فال من أحلام صغيرة مزعجة جدا للديمقراطيين ،رافضى التوريث . فبعد ان أكل الأخضر واليابس ، وأصبح ينافس أكبر التجار ، خصوصا في قطاع العقار والمخزون الهائل المشبوه من العملة الصعبة في مصاريف العالم الخارجي، ولو بأسماء مستعارة ، وبعد أن ورط موريتانيا في ملفات متعددة معروفة ، خصوصا ملف "الإسلاميين "، فقد بالغ فيه للإيقاع بصاحبه ، وتلويث سمعته ، ورفع سقف توقعات ذهاب حكمه ، مع ما يحمله الرجل من كره للتوجه الإسلامي ، عبر عنه، عبر صداقة مباشرة للصهاينة ، أقول بعد هذا المشوار المثير ، تحتفظ به المنسقية خطيبا في منابرها ومهرجاناتها المختلفة ، وتحسب استغلاله ممكنا على نطاق واسع دون مقابل مهدد يوما ما ، لمصير وبرنامج هذه المنسقية الهشة . فهل ينتبه حلفاؤنا قبل ضياع الوقت وفوات مرحلة العلاج إلى حين، قد لا يسمح أخلاقيا وسياسيا يفسخ الرفيق، غير المرغوب عند أغلب قادة هذه المنسقية ، المتوحدين شكلا ،المختلفين مبادئ وخططا وطموحا . إ ن السماح بدخول إعل في المعركة ، سيفرض أخلاقيا وسياسيا السماح بمشاركة زعيم سياسي عسكري مثير ، مثل معاوية ، لأن قانون " العزل السياسي" ولو عبر البرلمان " بأغلبية معارضة لنفوذ أوحكم العسكر لم ينجح في تحقيق المرغوب، وإنما أدى ذلك إلى تأجيج الساحة وضاعف من حظوظ العسكر في الداخل المصري بوجه خاص ، وفي عموم الوطن العربي لاحقا ، وهذا جلي محرج. إن تعجل النصر قد يؤدى إلى الفشل ، أو على الأقل تأخير النصر وتعسير طريقه ، الصعب أصلا في طبيعته المعروفة ، عبر التاريخ المديد ، للنبوات والدعوات والثورات وطموحات الشعوب نحو الانعتاق . ومجرد قراءة الأحداث قد لا تكفي ، ومجرد توقعها قد لا يكفي أيضا ، ولابد من الإسهام الفعلي النزيه المتوازن –بإذن الله – في صنعها وتيسيرها، على وجه عادل منصف . إن المبالغة – لدى الإخوان المصريين – وهنا لا أعني الإخوان فحسب بالمعنى الحركي ، وإنما عموم أخوة العروبة والإسلام، في موضوع محاكمة مبارك وأزلامه وقرار العزل السياسي من تحت قبة البرلمان كاد أن يعصف بآمال المصريين جميعهم – وخصوصا أنصار الثورة من بينهم – وبآمال كثير من العرب والمسلمين، في عموم العالمين العربي والإسلامي بدون استثناء . فهل نعى مقابل هذا على صعيدنا المحلي الموريتاني؟ إنني من منطلق المعرفة والاطلاع على بعض التفاصيل البسيطة المهمة ، أستطيع أن أجزم الآن ،قبل غد ،أن قطر مصرة على أن يلعب معاوية دورا محوريا في قادم مستقبلنا السياسي المرتقب ، وأن معاوية غير نافر من هذا، إن توفرت الشروط ،لاسترداد ماء وجهه، بعد أن طرده حارسه من الحكم ، بطريقة مؤلمة ، وقد يكون له دعوى في القدرة على تسيير الشأن العام ، على وجه أفضل مما سبق ، وبمستوى قد لايقوى مدير الأمن اعل أو الحارس عزيز على ادعائه بسهولة . وأغلب النخب عندنا ، قد لا ترغب في استنساخ حكم العسكر ، بطريقة أو بأخرى ، أو باسم أو بآخر ، لكن تحييد مثل هذه الأسماء – المحتملة على مستويات متفاوتة أو غيرها – يحتاج إلى لحمة ووعي وعمل ملموس ، قد لا تقوى المنسقية وغيرها من قوى المعارضة على تجسيده ، على وجه يمنع قيادة أحدهم للمرحلة الانتقالية المرتقبة ، بعد رحيل الحكم الراهن . لتكون المهزلة المنتظرة غير مريحة ، في باب الخروج من حكم العسكر تلقائيا ، على الأقل ، في المرحلة الانتقالية الأولى . وليعيد التاريخ نفسه – كالمعتاد - الصراع الرئاسي المحتدم ، خصوصا في الدور الثاني ، بين معاوية وأحمد ولد داداه ولتكون الغلبة طبعا لمعاوية " حسب مؤشرات ومعطيات ليس من مصلحة القارئ تجاهلها " ،على تفوز المعارضة المنقسمة بين معاوية وأحمد بأغلب المقاعد البرلمانية والبلدية ، ممهدة لحكم ديمقراطي جاد وعسير بامتياز . لقد ظهر من خلال الأحداث في مصر ،أن المنتفعين من الأنظمة العسكرية الدكتاتورية البائدة ، لا يتخلون عن مصالحهم ومطامعهم وأحلامهم – عير المشروعة أحيانا – ببساطة، وقد لا نكون محليا قادرين في وقت قصير على دفن نموذج الحكم العسكري الإستبدادي . ولقد كادوا أن يفعلوها في مصر العزيزة ، وإن لم يتوحد جميع أنصار الحكم المدني الديمقراطي " الشوروي " في بلادنا ، فإن حكم العسكر سيعيد ترتيب أوراقه المبعثرة المهددة ، بشكل أو بآخر ، في الحاضر أو المستقبل القريب ، ولو سقط مؤقتا حكمهم ، بعد فشل ولد عبد العزيز في رد العاصفة الحالية العاتية المدوية بالرحيل أو الترحيل القسري . ستكون أحداثا مثيرة وشاقة ، يصير فيها المعارض مؤيدا شديد التأييد للمطرود السابق معاوية ، وقد يفشل الإسلاميون في المرحلة الأولى في كسب المعركة الرئاسية ،وإن نجحوا بشكل محدود في تحسين حظهم في البرلمان والبلدية ، فلا وجه للمقارنة – كبيرا على الأقل – بين إخوان مصر وتواصل موريتانيا . أما إن بادر جميل وصحبه في المعالجة الصعبة – المستحيلة في بعض ملفاتها المزمنة - لرأب أغلب "الجرح الحركي الإسلامي الداخلي "وتوسيع دائرة التصالح والتحالف بين الإسلاميين وغيرهم، فهذا قد يصنع المفاجأة المأمولة ،حكما إسلاميا مدنيا مرنا في بلاد شنقيط ،المحرومة من 1978 من حكم مدني ،مهما كانت عيوبه ،بعد ليل " اصنادره" الطويل المذل المقزم. إن الإسلاميين الموريتانيين بحاجة ملحة لمغالبة الجهوية والتقوقع والنظرة الدونية لغيرهم ، بحجة صلاح الطريقة وغواية الآخر وبعده من الله أو من الحق ، فالله أعلم بالأفضل، ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى. إن القوى الوطنية غير المنتمية حزبيا أو أيديولوجيا لحركتنا الإسلامية ، قد أنقذوا الثورة في مصر وآمال الأمة وأحرار العالم ، في عرض الوطن العربي والعالم أجمع . وما يتصوره البعض ، أن مشروع الثورة الموريتانية الحالية مشروع إسلامي في أغلبه ، مجرد وهم قاصر ، فأحداث الجمعة لم تنجح بعد ، في تأجيج المسرح الثوري بشكل فعال، وإنما الجهد الجماعي أكثر تأثيرا واكثر أمانا ، لجميع أطراف اللعبة الوطنية ، المجاهدة من أجل غد أفضل، لجميع الموريتانيين ن دون تمييز او ظلم أو إقصاء . إن الإسلاميين الموريتانيين بحاجة لتوسيع دائرة التحالف والتفاهم ، والتأمل بشكل خاص سواء في الدرس المصري الحالي الكبير ، و خصوصيات مجتمعنا وسياستنا وعسكرنا ومدنيينا الإنتهازيين أحيانا ، الصادقين في أوقات نادرة ، صعبة التمييز واليقين. - إن جميع أنصار الإسلام – بالمعنى الواسع - في مصر، وأنصار الحكم المدني والخلاص من قبضة المؤسسة العسكرية المهيمنة منذ1952 وإلى غاية اليوم ، وأنصار الحق ضد التعذيب ونموذج "الدولة البوليسية المخابراتية " - العميلة للغرب والعدو الصهيوني ، هؤلاء جميعا ، ما استطاعوا النصر ، إلا بفارق انتخابي بسيط وبعد جهد جهيد ، فكيف بمن يدعى القوة والأحقية ، ويحرص أحيانا على التمييز ، قبل حلول أي موعد أو حدث حاسم ذى بال . - إن الدرس المصري أ وحي للمهتمين به ، بأن المعارضات الإسلامية الناشطة ،الرافضة للاستبداد والظلم وسوء تسيير الشأن العام والمال العام ، قد تنجح في إسقاط رئيس حاكم ، ولكنها قد تفشل في مسح في أهم ملامح هذا النظام ، وقد ينجح في الانتخابات من لا يخدم الثورة والتغيير ، وقد لا يرغب فيه إطلاقا.
إن الدرس المصري يؤشر إلى سقوط كل الأنظمة العربية الراهنة، بشكلها السابق، فإما أن يتكيف البعض، ولو على نحو غير مرض للبعض، من الراغبين في تغيير أكبر. ولكن إما التكيف التلقائي، من قبل هذه الأنظمة بذاتها لذاتها، وقد لا يقبل هذا الأسلوب في بعض البلدان العربية، على الأقل في وقت لاحق، وقد يكون الحل في أغلب الرقعة العربية هو التغيير الشعبي الجارف العام الشامل، ولو على تدرج وتمهل، غير بطيء، وغير متأخر. - ولعل أول طرف خارجي خدم هذا الربيع العربي، وبطابع إسلامي، هو أمريكا ودولة إسرائيل، التي شجعت دينية الدولة المحتلة والكيان الصهيوني اللقيط. - ولعلها بإذن الله بعد هذا النجاح المصري الملهم الباهر ستكون خلافة راشدة عامة، على عموم الوطن العربي والإسلامي، إن صدقنا الإيمان معشر المسلمين، والتسامح مع إخواننا في الوطن الإسلامي الكبير، من غير المسلمين من مواطني هذا الوطن الكبير، رغم الحدود الحالية المصطنعة الزائلة يوما ما ن إن شاء الله، ولعل هذا النور الإسلامي الساطع المبارك، سيشع يوما خارج الأفق الإسلامي فيضيئ العالم أجمع. - ولتبشر يا أقصانا الأسير، بفك أسر وشيك، وما ذلك على الله بعزيز، بمشيئة الرب اللطيف الحكيم، والله غالب على أمره "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور".