تحدث المفكر المغربي طه عبد الرحمن في كتابه "روح الدين" عن ما سماه بمصطلح "التسييد"، وهي عقدة يصاب بها الحكام المستبدون، تتداخل فيها النرجسية والغموض والالتواء وحب التسلط والتحكم، وقد أصل لها حيث أرجع جذورها إلى فرعون الذي هو المرجع الأول لكل الطغاة والمستبدين، وعدد ظواهر "التسييد" التي تجتمع كلها في شخص الجنرال محمد ولد عبد العزيز.
ولا يخفى على ذي بال إصابة الرجل بهذا المرض العضال الذي جعله يترنح في تيه على جميع الصُعد، حاله كحال الأعمى في المثل الشعبي الذي يحفر في مكان ويبصق في مكان آخر ويحثي التراب في مكان ثالث.
جنرال تائه يجر البلد حيث ما يمم هواه وعقله الصغير، متجاوزا الخطوط الحمراء التي رسمتها قيم وأعراف وقوانين هذا البلد.
..الطرق الملتوية
دأب الجنرال التائه منذ وصوله القصر الرمادي على اتباع سياسة الطرق الملتوية في كل شيء؛ سياسيا كانت الطريق أو اجتماعيا..، ولا أدل على ذلك في سياسته الطرقية هذه مما يقام به في مجال صيانة الطرق الحضرية بنواكشوط والعمل عليها انطلاقا من سياسة الأعمى، هذا في مجال الطرق التي يوليها الجنرال اهتماما ويضعها في أولوياته، إن كانت له أولويات أصلا، فمالك ببقية المجالات ونوعية الطرق الملتوية تجاهها.
ففي المجال السياسي حدث ولا حرج عن الجنرال الإلتوائي منذ انقلابه ضحوة النهار، ومن تلك اللحظة هو من طريق ملتوي إلى آخر أكثر التواءً والدليل على ذلك تنصله ومنذ البداية من جميع بنود اتفاق دكار الذي أخرجه من عنق الزجاجة.
وما تبع ذلك من التفافات صارت عادة ملازمة لصاحبها، فالجميع يتذكر جيدا الطريقة الملتوية التي أخذها مع بعض أحزاب المعارضة، وكيف مرر نتائج ذلك الحوار الهزيل عبر مجاري طرقه الملتوية.
وفي المجال الاجتماعي يبرز برنامج "أمل 2012" الذي تحطمت على أبوابه آمال المواطنين، بل وأهدرت كرامتهم بما لا يسمن ولا يغني من جوع.
وستتكشف في الأيام القادمة حقائق عن فشل هذا البرنامج الذي رصدت له ميزانية بخمسة وأربعين مليار من الأوقية، وما زالت ساكنة الداخل لم يصل إليها فتات الأمل الضائع، وما حدث في مقاطعة "جكني" قبل أيام ليس عنا ببعيد.
ولم يتوصل الشباب الذين يشرفون ويراقبون هذا البرنامج برواتبهم بعد، كما لم يجد ساكنة لبراكنة للأمل من شيء في محنتهم الأخيرة.
..الأفق الضيق
أكبر معضلة يعاني منها الحاكم هو أن يصاب بضيق الأفق، وهي بالذات المعضلة التي يعاني منها الجنرال التائه، فلم يسعفه أفقه الضيق في استيعاب موريتانيا بتنوعها الثقافي والفكري والفئوي والسياسي، فعجز عن إدارة السلطة التي اغتصبها عنوة.
وقد قيل قديما من جهل شيئا عاداه، وهي المقولة التي أثبتها الجنرال غير المتعلم، ففي سنواته العجاف لم يجد أهل العلم والفكر وأصحاب الرأي متسعا في وطنهم فضاق عنهم عقل الجنرال الضيق فتم تهميشهم بل وحرمانهم من حقهم في العمل والتوظيف، وكان البديل عنهم من لا يملك علما ولا خبرة.
ففي سنواته العجاف انتهكت حرمت الحرائر فضربوا وديست كرامتهن الطاهرة، وفي سنواته العجاف لم يجد حملة الشهادات ما يستوعبهم في وطنهم الذي ضحوا من أجله بالغالي والنفيس، فضربوا وسجنوا لأنهم طالبوا بحقهم.
وفي سنواته العجاف وصل التعليم والصحة وجميع المرافق الخدمية مستوى من التردي لم يسبق له مثيل.
..الجنرال المفلس
قيل قديما إذا صعد الرجل على أكتاف الآخرين فاعلم أن سقوطه سيكون مدويا. ذلك ما حدث للجنرال المفلس، فقد تسلق على أكتاف الرجال ليصل للسلطة دون ما مؤهل علمي ولا تكوين مهني ولا خبرة تراكمية.
فكان مصيره الإفلاس السريع والسقوط من شاهق، إفلاس سياسي، وإفلاس شعبي، وإفلاس اقتصادي واجتماعي.
ففي المجال السياسي أثبت عجزه البين عن إدارة الشأن العام، فبسبب عنجهيته وصلت البلاد إلى حالة فراغ دستوري، حيث عطلت المؤسسات التشريعية مما جعل الحالة السياسية للبلد في وضعية غير طبيعية.
وفي المجال الاقتصادي تعطلت جميع البرامج التنموية بسبب سوء الإدارة والتصرف مع الشركاء الدوليين، وتم التضييق على البلديات وشلت جهودها ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل شوهت صورتها في الإعلام الرسمي ولدى شركاء التنمية.
والعجز كذلك عن إيجاد حلول للحد من البطالة، بسبب بدائية الإجراءات المتبعة في هذا الصدد، حين يكون التوظيف على أساس القرابة الضيقة والولاء السياسي على حساب الكفاءة.
فشل برنامج التضامن وانعدام الأمل في "أمل"، وفشل جميع التدخلات في الكوارث التي حلت بالبلد مثل السيول والجفاف والعطش ونفوق المواشي.
وهي تدخلات لا تعدوا كونها فرقعات إعلامية وذر الرماد في العيون، لم تعد تنطلي على أحد.
...الثلاث المهلكة
ورد في الأثر "ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والمكر والنكث" ففي البغي قال تعالى {إنما بغيكم على أنفسكم}، وفي المكر قال تعالى {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، وفي النكث ورد قوله سبحانه وتعالى {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}.
وقد اجتمعت هذه المهلكات الثلاث في شخص الجنرال الراحل، لتكون قاصمة الظهر له، والمسمار الذي دق في نعشه. وما ذلك على الله بعزيز.