حين تكون التربيةُ الروحية موجِّها لـ"الأخلاق السياسية"...! / أحمد ولد الحافظ

مجبرون نحن –دائما في هذا الزمن الملغوم- بالتمهيد والتوطئة الدائمين؛ بل والتبرير والتفسير أحيانا؛ حتى وإن كان الأمر لا يعني غير تعبيرك عن رأيك.. من هنا فإنني أنبه القارئ الكريم إلى زعمي بأن هذه الدردشة ليست غير خلاصة لنقاش موضوعي مجرد، ابتعد صاحبه –ما استطاع- عن الذاتية.. كتبتُ دون ضغط نفسي مهما كانت طبيعته..

في مقالي الأخير الموسوم بـ(خطاب الغزواني: تباشير "قيم سياسية" كانت مغيبة) راهنتُ على ميلاد نمط من "الأخلاق السياسية" جلي وجديد أيضا.. ولم يكن ذلك النمط –في تقديري- وليد صدفة عابرة بالمطلق؛ بل كان نتاج قرار واضح؛ عبَّر عنه المترشح نفسه بصراحة حين قال إنه يضع "رصيده التربوي" تحت تصرف أمته.. وهو رصيد تؤكد الأيام –يوما بعد آخر- أنه ليس بالقليل أبدا..!

صحيح أن العبد الفقير إلى ربه هذا كان مهووسا بحب الصوفية والمتصوفين؛ لكن الصحيح –أيضا- أن الصوفية مثلت وتمثل آخر قلاع "مدارس التربية والأخلاق" على هذه الربوع.. وسامحوني إن كنتم ترون أن هذا الانطباع خارج على السياق، أو داخل في دائرة الانحياز "اللاموضوعية".. لكن الشافع لي –ربما- أنه ليس غير رأيي بمنتهى التجرد؛ ذلك الرأي الذي ما توكّأتُ حياله، ولا خنتُه، ولا جاملت في شأنه؛ مهما كانت العوائق والتحديات.. وأرجو الله أن يختم لي بذلك المنوال (أقول رأيي وأمضي).

بعد خطاب ترشح الغزواني -وبعد المقال الآنف- جرت مياه وفيرة تحت الجسر.. فراهن أقوامٌ آخرون على أن أسبوعين من التواصل المباشر والمكثف مع الناس؛ من قبل ضابط مهني (بالكاد تقاعد) عاش كل ماضيه الوظيفي متفرغا لمهنته ولوظيفته؛ دون أن يرى نفسه معنيا بالكلام أو الخطابات؛ بل والشأن السياسي عموما.. أنهما (أي الأسبوعان) كفيلان بهدم تلك الصورة الناصعة التي رسمها مساء فاتح آذار المنصرم (مساء خطاب الترشح).. وفعلا؛ تحمل تلك المقاربة -أو الرؤية- كثيرا من الموضوعية وشيئا من "التماسك العضوي"..!

تقاعد المترشح (محمد ولد الغزواني) قبل أشهر قليلة؛ بعد أن عاش كل ماضيه الوظيفي (حوالي أربعة عقود) في كنف القوات المسلحة؛ وحيث تصرف طيلة ذلك الماضي (ووفق ما تثبته وتؤكده القرائن) كضابط مهني (وضابط مهني فقط) لم يقم بالمبادرات السياسية أبدا.. ولم يترأس الاجتماعات القبلية.. ولم يقد الأحلاف الجهوية.. والحقيقة أنه كان باستطاعته فعل ذلك كله لو كان مقتنعا أو راغبا.. اكتفى بالعيش بين جنوده وكتائبه؛ دون أن يقرأ جملة سياسية واحدة.. يعزز هذا أنه حين أُعلن مرشحا للأغلبية بادرنا نبحث -عبر محركات البحث- عن آثاره (الخطابية خصوصا) إلا أننا لم نجد غير جمل قليلة (وإن كانت مكتنزة معنى ومبنى) بمناسبة تخريج دفعة من ضباط القوات المسلحة..!

يتضح من خلال هذه الصورة أنه من المنطقي جدا أن رجلا يحمل كل هذا التاريخ "المهني الصرف" سيمثل تواصله ذلك المتعدد والمكثف (ستة وثلاثون كلمة وخطابا ولقاء في أقل من أسبوعين) مع القواعد الشعبية تحديا كبيرا.. من هنا رأى الكثير من المتربصين -بل والمشفقين أحيانا- أن الرجل تعرض لمؤامرة وفخ تستحيل النجاة منهما.. لكن الظاهر أن الرياح جرت بما لا تشتهيه سفن المتربصين.. وبما لا تحبه مراكب المشفقين.. ثلاثون كلمة وخطابا ولقاء.. رسخت وجذرت الصورة الأخلاقية للرجل؛ تلك الصورة التي بدا –ويبدو- فيها نشازا تربويا، واستثناء أخلاقيا من كل السياسيين –تقريبا- على هذه الأرض..!

تجلى ذلك النشاز التربوي وتلك الاستثنائية الأخلاقية في تواضع الرجل البادي في كل محطات زيارته؛ ذلك التواضع الذي لم يكن تكتيكا ولا تمظهرا.. بل كان استراتيجيا وحقيقيا؛ فحين تزدحم الناس من حوله؛ دون أن يتركوا له متنفسا.. يشكرهم كثيرا، ويعبر لهم عن امتنانه؛ لأنهم –في رأيه- فعلوا ذلك ترحيبا به، وحرصا على استقباله.. لم يتضايق رغم أن الموقف يكون –أحيانا- مزعجا؛ بل ومرهقا أيضا.. كانت مفرداته هادئة وخلوقة.. وكانت نبرته حانية سمحة..!

لم يتعرض "المترشح" مرة واحدة لأي من خصومه السياسيين (رغم أن أحدا منهم لم يترك فرصة للتعرض له إلا وأتاها) بل كان يحث على احترام المختلف وتفهم الاختلاف... كان كذلك؛ لأنه –من الناحية السياسية- لديه ما سيقوله.. ولديه ما سيفعله.. ولأنه من الناحية الأخلاقية (وهو الموضوع تقريبا) تأبى عليه تربيته (التي وضعها مأجورا إن شاء الله تحت تصرف أمته) أن يذكر الآخرين بما لا يحبون.. لذلك ليس معنيا بالحكم على الخصوم، وليس معنيا بتقويمهم.

أحمد ولد الحافظ

رئيس مركز تسامح

11. أبريل 2019 - 8:38

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا