قد يكون الأجداد هم المجتمع البدوي المتنقل الوحيد تقريبا في العالم الذي اتخذ من ظهور العيس مدرسة أنتجت علما وثقافة، وأسست لحضارة أزاحت الظلام عن شبه المنطقة كلها، إلا أننا نحن الأحفاد رغم كل الوسائل المتاحة لنا في مطلع القرن الواحد والعشرين، ورغم " الإصلاحات" المتكررة لنظامنا التربوي في وقت قصير نسبيا لم ننجح حتى الآن في التوصل إلى نظام تعليمي يربط حاضرنا بماضينا، ويؤسس لبناء المدرسة الجمهورية عماد المواطنة والإنصاف، وتكافؤ الفرص، بل على النقيض من ذلك تم تكريس دور مدرسة اللامواطنة، مدرسة اللاهوية، مدرسة الغبن، حيث تم غلق باب الصعود الاجتماعي الذي كان التعليم عبر العصور أهم وسيلة لتحقيقه، وفقدت الحكومة السيطرة التربوية على مواطنيها بسبب تعدد المدارس الحرة وتنوع و إختلاف أنظمتها التربوية ومناهجها المستوردة، وأصبح التعليم وسيلة لتكريس الطبقية، وتعميق الفجوة بين أفراد المجتمع، وتوريث السلطة والمناصب؛ مما أحدث شرخا عميقا في جسد اللحمة الوطنية الهش أصلا، بل إن نظام التعليم في بلادنا خلق دولتين في دولة واحدة لكل منهما لغتها، و يتجه إلى إنشاء دولة اللالغة.
لقد علمنا التاريخ أن التخلف عن الركب العالمي تعليميا كان ولايزال أحد أهم أسباب إنهيار وموت الدول والأمم، ولنا في سقوط أعتى امبراطوريتين الخلافة العثمانية، وإمبراطورية تشينغ الصينية في بداية القرن العشرين خير مثال على ذلك. في المقابل نجد دولا مثل: كوريا الجنوبية، وماليزيا، وسنغافوره، واليابان، وتركيا، وفنلندا، و رواندا جميعها اتخذت من بناء الإنسان هدفا مركزيا عن طريق استراتيجيات تربوية تعليمية توائم وتعزز ثقافة مجتمعاتها، وتواكب ما يشهده العالم من تطور وتقدم علمي، مما منح الفرد في هذه الدول القدرة على الإبداع، وجعلها تتصدر المؤشرات العالمية في التنمية والأمن و التنافسية.
اليوم يستعد العالم لدخول عصر الثورة الصناعية الرابعة، حيث المصانع الرقمية الذكية ذاتية الإدارة، والعمليات الصناعية الرقمية المرتبطة بالإنترنت، عصر تدفق المعلومات الذي يتضاعف، ويتجدد فيه حجم المعرفة البشرية بسرعة قدرها الباحثون بحوالي 72 يوما في أفق 2020 م، وهذا ما يتطلب منا جميعا مترشحين للرئاسيات، ومنتخبين أن ندرك أن البشرية ستنتقل إلى عصر الحياة الرقمية المرتبطة بالإنترنت خلال العقدين القادمين، ولا حياة أبدا للجاهل في هذا العالم الذي بدأت ملامحه تتشكل، العالم الذي لن يكون حكرا على الدول الغنية المتطورة بل وحتى أفقر قرى إفريقيا لن تكون بمعزل عنه.
اليوم تستعد بلادنا لتنظيم انتخابات رئاسية أعلن عدة مرشحين من خلال خطابات تحمل المحاور الرئيسية لبرامجهم تقدمهم لنيل ثقة الناخب الوطني، الذي ينتظر منهم صياغة برامج أرقام انتخابية تلامس الواقع الذي يتمناه، ومحددة بخطط، ومشاريع ذات أهداف، وفترة زمنية للتطبيق واضحة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، و يحتار الناخبون. أما أنا فلا أقول إلا ما قال حكماء الصين قبل 2500سنة 以孝治天下 أي بالبرّ تساس الدول، و من بين المرشحين من دشن خطاب إعلان ترشحه مرحلة جديدة تقوم على الأخلاق، والقيم، والمبادئ الأساس ضروري لأي مشروع نهضوي، و العنصر المهم في أي عملية تنموية. من بينهم من للعهد عنده معنى، والعهد الذي بيننا وبينه هو إصلاح التعليم، والتركيز على بناء الأجيال الحالية والقادمة حتى يكونوا مسلحين بأدوات ومهارات العيش والحياة الكريمة في العصر الجديد، وحتى لا يكونوا ممن سماهم الكاتب الإسرائيلي البروفيسور يوفال نوح في كتابه "موجز تاريخ الغد " طبقة عديمي الفائدة الذين هم شريحة تحت العبيد، على الأقل في العصور الغابرة كان للعبيد حينها قيمة اقتصادية أو عسكرية أستعبدوا من أجلها، وعبودية تلك العصور رغم فداحتها تبقى أفضل بكثير من أمية القرن الحادي والعشرين، ولن يكون الإصلاح إصلاحا إذا لم يحقق تمييزا إيجابيا لآدواب لاستدراك الحرمان من التعليم لعدة قرون.
العهد الذي بيننا وبينه هو إصلاح تعليمي يكرس مبدأ التعليم كأولوية، و يجعل منه الأرض الخصبة لإرساء مفوم المواطنة والتماسك الإجتماعي في بلدنا تحت ظل دولة ديمقراطية تعتمد على الولاء المشترك لمبادئ نابعة من هويتنا الإسلامية؛ إصلاح تعليمي يخلق تعايش سلمي تشاركي عادل يستوعب التنوع العرقي في بلادنا، ويقبل الآخر في عصر البيت الكوني الواحد.
العهد الذي بيننا وبينه هو إصلاح تعليمي نوعي يأخذ في الحسبان الكم والكيف الهائل للمعلومات وتحديثها من حين لآخر، إصلاح يؤسس لنهضة مهاراتية تلبي متطلبات سوق عمل اليوم بما فيها من تقدم علمي وتكنولوجي فائق النوعية؛ إصلاح يحقق الوحدة الثقافية للإثنيات المختلفة في بلادنا مع الحفاظ على خصوصياتها، ويحافظ على الهوية الوطنية الجامعة، والسيادة اللغوية، ويعزز من استخدام اللغات الوطنية؛ إصلاح تعليمي قادر على نقل قيمنا وثقافتنا إلى الأجيال القادمة، وقادر على المساهمة في إعادة بناء المنظومة الأخلاقية والقيمية المنهارة. العهد الذي بيننا وبينه هو إصلاح تعليمي شامل يجعلنا ندرك جليا المسافة بيننا والعالم المتقدم، وجعلنا ندرك أكثر كيف نقلص تلك المسافة.