لقد اختار الرئيس مسعود أن يعلن عن مبادرته من خلال برنامج الحوار التلفزيوني الذي استضافه في إحدى حلقاته، وكان من اللافت أن الرئيس مسعود ومن قبل أن يكشف ـ خلال البرنامج ـ عن نيته للقاء زعماء المعارضة المقاطعة للحوار، كان قبل ذلك قد تحدث عن مبادرتين: إحداهما لم تكن معروفة، وقد تحدث عنها بحماس بدا غريبا إلى حد ما، حتى وإن كان
قد وجد صعوبة في تذكر اسم صاحبها. أما المبادرة الثانية فقد تحدث عنها بفتور، رغم أنها كانت تضم شخصيات وازنة، ورغم أنها كانت قد اكتسبت ـ من قبل ذلك اللقاءـ شهرة كبيرة في الصحافة المستقلة.
لقد كان من المفترض بالرئيس مسعود أن يعلن ـ في ذلك اللقاء ـ عن دعمه لمبادرة نداء الوطن لأن ما كانت تدعو إليه تلك المبادرة لا يختلف في جوهره عن الذي ستدعو إليه ـ في وقت لاحق ـ مبادرة الرئيس مسعود، ولأن مبادرة نداء الوطن إضافة لذلك كانت تضم شخصيات حاولت أن تبتعد ظاهريا ـ على الأقل ـ عن تفاصيل الصراعات اليومية القائمة بين الأطراف السياسية مما منحها القدرة على الوقوف مسافة واحدة من كل الأطراف، وهو ما كان سيمنحها ثقة لدى كل الأطراف السياسية، إن كانت لتلك الأطراف الرغبة أصلا في أن تثق بالقائمين على تلك المبادرة.
إذاً اختار الرئيس مسعود وهو طرف في الصراع أن يدفع بمبادرته الخاصة به، بدلا من دعم مبادرة شبه مستقلة عن كل الأطراف. فلماذا قرر الرئيس مسعود وهو طرف في الصراع أن يطلق مبادرته الخاصة؟ وهل الرئيس مسعود جاد في البحث عن إيجاد حلول للأزمة القائمة؟ أم أنه أراد فقط أن يبرر موقفه السياسي من خلال الظهور بمظهر من يحاول أن يجد حلا للأزمة القائمة فإن نجح في مبادرته تعززت مكانته السياسية، وإن فشل أكسبه ذلك عذرا لدى كل الموريتانيين لأنه سيظهر بمظهر من قام بما يجب أن يقوم به، ولكنه في النهاية تم خذلانه من بقية الأطراف الأخرى؟
تلك أسئلة لن أجيب عليها، ولكن مع ذلك سأسجل هنا بعض الملاحظات التي قد تعين على الإجابة عليها، لمن أراد أن يجيب عليها لوحده.
1 ـ لقد حاول الرئيس مسعود أن يؤكد ـ كلما أتيحت له الفرصة لذلك ـ بأن هذه المبادرة هي مبادرته الخاصة، وأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز لا صلة له بها إطلاقا، وإنما تم إشعاره بها بنفس الطريقة التي تم بها إشعار قادة أحزاب المعارضة المقاطعة للحوار.
وسواء كان الرئيس محمد ولد عبد العزيز هو من أشار على الرئيس مسعود بإطلاق هذه المبادرة، أم أن الرئيس مسعود هو الذي أشار على نفسه بإطلاقها، ففي كلا الحالتين، فإنكم لن تسمعوا غير هذا الكلام، لأنه يخدم سياسيا، وفي نفس الوقت كلا الرجلين.
فالرئيس محمد ولد عبد العزيز سواء كان هو الذي أطلق المبادرة، أم لم يكن على علم بها، فمن مصلحته أن يعلن بأنه لم يكن على علم بها، لأن علمه بها يعني بأنه قد بدأ يشعر بأنه في موقف ضعف، وبأن عليه أن يقدم تنازلات، وهو الشيء الذي سيحاول خصومه أن يستغلونه تفاوضيا وسياسيا أيضا.
وفي المقابل فإن الرئيس مسعود وسواء كان هو صاحب المبادرة أم أنه كان مجرد ساعي بريد، فمن مصلحته أيضا أن يقول بأنه هو صاحب المبادرة الذي أطلقها، فإن نجحت المبادرة فإن مكانته السياسية والتفاوضية ستتعزز حتما، وإن فشلت فإن ذلك سيكون بمثابة براءة له من كل ما سيترتب على الأزمة القائمة من أضرار لاحقة، لأنه سيظهر ـ أمام الشعب الموريتاني ـ بمظهر من بذل كل ما في وسعه لتجنب تلك الأضرار.
إن المتضرر الوحيد في هذه الحالة سيكون شركاء الرجلين، فأغلبية الرئيس محمد ولد عبد العزيز ستتضرر كما كانت تتضرر دائما، فقول الرئيس مسعود بأن المبادرة هي مبادرته، وأنه لم يشرك أثناء صياغتها الرئيس محمد ولد عبد العزيز ، وبالتالي لم يشرك أغلبيته الداعمة له، فذلك يعني بأن الأغلبية الداعمة للرئيس لا شأن لها بإعداد وصياغة مثل هذه الأمور الكبيرة التي تتعلق بقضايا كبرى، وإنما يقتصر دورها على إصدار بيانات السب والشتم، وتنظيم المبادرات الداعمة، والدفاع عن برنامج رئيس الجمهورية بطريقة تسيء لهذا البرنامج أكثر مما تدعمه.
أما شركاء الرئيس مسعود، أو على الأصح شريك الرئيس مسعود، فالرئيس مسعود لا يتحدث عادة إلا عن شريك واحد، فقد تضرر هو الآخر من القول بأن هذه المبادرة خاصة بالرئيس مسعود، وهو ما يظهر من خلال بيان المعاهدة المختصر جدا، والمتأخر جدا، والذي أعلنت خلاله عن دعمها لمبادرة الرئيس مسعود، وهو الإعلان الذي لم تصدره إلا بعد أن تحدثت تسريبات إعلامية وقالت بأن رئيس المعاهدة السيد بيجل قد عبر عن استيائه من مبادرة الرئيس مسعود، خلال لقائه الأخير بالرئيس محمد ولد عبد العزيز.
2 ـ من المتفق عليه بأن الرئيس مسعود لم يمهد جيدا لمبادرته خلال لقائه في التلفزيون، كما أنه لم يمهد للمبادرة من خلال خطابه الذي افتتح به الدورة البرلمانية الحالية، حيث كان قاسيا مع المنسقية وقادتها، وبالتأكيد فإن كل ذلك سينعكس لاحقا على المبادرة. ولكن، ورغم ذلك، فقد بدا من الواضح جدا بأن الرئيس مسعود، وبعد أن أطلق مبادرته غير كثيرا من لهجته، وبدأ يتحدث بلغة هادئة جدا، ومتفائلة جدا، رغم بعض الاستفزازات التي أظهرتها أحزاب المنسقية، والتي يبدو أنها لم تقتنع بجدية المبادرة نظرا لغياب الثقة، ونظرا لخوفها من أن تكون المبادرة تهدف بالأساس إلى التأثير سلبا على مهرجان الحشد الكبير الذي تنوي المنسقية تنظيمه يوم السبت القادم.
لقد ظل الرئيس مسعود يصرح بعد كل لقاء من لقاءاته بقادة أحزاب المنسقية بتصريحات في غاية الإيجابية، وإن كان تصريحه بعد لقائه بقادة حزب اتحاد قوى التقدم هو أكثر تلك التصريحات ايجابية، وقد رد عليه النائب المصطفى ولد بدر الدين بتصريح إيجابي كان هو التصريح الأكثر ودية وإيجابية من بين كل تصريحات قادة أحزاب المنسقية (وفي ذلك ما يستحق أن ألفت إليه انتباهكم).
فإذا كانت كل أحزاب المنسقية قد قبلت اعتذارات الرئيس مسعود، وقد أظهرت ترحيبا يليق بمكانته، إلا أنها في مجملها بادرت بعد تلك اللقاءات على التأكيد بأنها ماضية في السعي إلى فرض الرحيل. فقد اجتمعت اللجنة الدائمة لحزب التكتل وأصدرت بيانا بعد اجتماع مسعود ـ داده المغلق ( يمكن أن تلاحظوا بأنه كان هو الاجتماع الوحيد المغلق من بين كل اجتماعات مسعود بقادة المنسقية، وفي ذلك أيضا ما يستحق أن ألفت إليه انتباهكم)، فكان بيان اللجنة الدائمة قد جاء ليعبر عن تحفظها الشديد على شكل ومضمون مبادرة الرئيس مسعود. كما أكد البيان بأن اجتماع اللجنة الدائمة للحزب قد تم تخصيصه بالأساس إلى الاستعدادات الجارية على قدم وساق لضمان نجاح مهرجان السبت، وأن اللجنة قد اتخذت كافة الإجراءات المناسبة لضمان مشاركة فعالة في هذا الحدث الكبير. نفس الشيء سيحدث مع قوى التقدم حيث أطلق النائب المصطفى ولد بدر الدين تصريحات ساخنة عن الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ووصفه بأنه عقبة في وجه أي حل، وهو ما يعني ـ صراحة لا ضمنا ـ بأن اتحاد قوى التقدم لا يزال يعتبر بأنه لحل الأزمة فلا بد من إزاحة الرئيس محمد ولد عبد العزيز. ويبقى حزب تواصل هو الحزب الوحيد من بين كل أحزاب المنسقية الذي لم ينتظر حتى خروج الرئيس مسعود من مقره ليعلن عن مواصلة جهوده الرامية لفرض الرحيل. لقد أصر هذا الحزب على أن يستقبل الرئيس مسعود استقبالا خاصا، ربما ردا على تصريحاته الخاصة بالحزب، فعُلِقت لافتة كبيرة من قبل قدوم الرئيس مسعود، وكانت تلك اللافتة تدعو للمهرجان الذي سينظمه الحزب تمهيدا لمهرجان الحشد الكبير.، وهي عادة أصبح يصر عليها حزب تواصل، حيث ينظم نشاطا يستبق به مهرجانات المنسقية لتوجيه رسائل قد لا يكون الوقت مناسبا لمحاولة قراءتها.
يبقى أن أشير هنا إلى أنه في نفس اليوم الذي قيل بأن الرئيس مسعود كان قد أجرى فيه مكالمة مطولة مع رئيس اتحاد قوى التقدم، وهو اليوم الذي سبق بيومين لقاءه المغلق بالرئيس أحمد داداه ، في ذلك اليوم تحديدا، اجتمع على وجه الاستعجال، رئيس حزب تواصل، ورئيس حزب حاتم، وأصدرا بيانا مشتركا، لا يمكن أن تفهم دلالته السياسية، إلا في إطار كونه قد جاء استباقا لبدء تحركات الرئيس مسعود.
3 ـ من اللافت للانتباه أن الرئيس مسعود أجل لقاءه برئيس حزب اللقاء الديمقراطي، ولم يقابله إلا بعد أن كان قد أعلن بأنه أكمل لقاءاته بأحزاب المنسقية، ولا أدري إن كان ذلك بسبب أن الرئيس مسعود لم يستطع حتى الآن أن يتجاوز خلافاته الشخصية مع الرئيس الأسبق أعلي ولد محمد فال، فتجاهل، وإلى آخر لحظة، بسبب تلك الخلافات الشخصية حزب اللقاء الذي يعد الحزب الأقرب إلى الرئيس الأسبق أعلى ولد محمد فال، وتجاهل ـ للسبب ذاته ـ مبادرة نداء الوطن التي يترأسها الشيخ سيد أحمد ولد باب مين، أحد مقربي الرئيس الأسبق أعلي ولد محمد فال، وهي المبادرة التي تجاهلها أيضا الرئيس محمد ولد عبد العزيز، والذي كان من المفترض به أن يرحب بكل مبادرة تسعى لإيجاد حل للأزمة القائمة، خصوصا إذا كانت تلك المبادرة بحجم مبادرة نداء الوطن .
ومهما يكن من أمر، وسواء كانت مبادرة الرئيس مسعود قد أطلقها هو لوحده أم بتنسيق مع الرئيس محمد ولد عبد العزيز، فالشيء الظاهر أنها قد جاءت لتخطف الأضواء من مبادرة نداء الوطن، والتي ربما يكون ذنبها الوحيد هو أنه يترأسها رجل له علاقة طيبة برجل آخر، لم يستطع الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ولا الرئيس مسعود، أن يبعدا خلافاتهما الشخصية معه، عن اللقاءات المرتبطة بمبادرتهما المشتركة، أو ـ إذا شئتم ـ مبادرة الرئيس مسعود الخاصة به.
تصبحون بلا خلافات شخصية...