موريتانيا إلى أين؟ (الحلقة الثامنة)
كتاب: "موريتانيا إلى أين؟" للباحث د.بدي أبنو، يُنشر في حلقات أيام الإثنين والخميس.
الحلقة الثامنة.
الاستثناء المدني الناشئ
اندمج الحزب الموريتاني للعمل سنة 1972 في الحراك الذي سيقودُ مع عناصر من الحركة الوطنية الديمقراطية إلى تأسيس حزب الكادحين سنة 1973. وبذلك أخذ مدُّ تلك الحقبة يثبتُ بِشكل دالّ تجاوزه النسبي، ولو إلى حين، لتباين الخلفية الاجتماعية الثقافية للأنوية المكونة له. كلا الإطارين مؤلّفٌ من عناصر شبابية محدودة العدد ولكن الزخم الكادحي أخذ يمنح الميدان قدرات تعبوية ملفتة بمعايير المرحلة.
حزب العمل كان قبل اندماجه في الكادحين مؤلفا حصريا من عناصر من الضفّة تكتلتْ حركياً غداة مأساة ست وستين.
كانت تلك الدينامية الإندماجية إحدى ثمرات النشاط المدني والتعبوي الذي تكثّف مع أواخر الستينات. فهنالك شبْهُ إجماع بين الدارسين على أن هزّة الوعي التي أحدثها قتلُ المتظاهرين خلال أحداث الزويرات سنة 1968 كانت أهمّ مادشّن أوّلَ دينامية سياسية فاعلة تخترق الاستقطابات الإثنية. بدا أن "دولة جبل الحديد" قدْ دخلتْ في مواجهة حدّية نسبياً مع فضاء مدني وُلدَ جدلياً عبْرها ووُلدَ في مواجهتها في آن، بدا أن الأهمّ، إنْ جاز التعبير من وجهة نظر الدولة الكومبرادورية، أيْ إنتاج الحديد في "جبله" قد تمَّ "تعطيله. كلُّ الاستياء والإحباط يتمُّ التعبير عنهما فجأةً. لم يعد الأمر نزاعاً حول العمال. إنه إعادة نظر مفاجئة في المجتمع الاستعماري المحدَث"[1] بحسب عبارة الباحث جان لوي بالان المتداولة.
صحيحٌ أن هذا النشاط ظَلَّ بشكلٍ من الأشكال انعكاسا للمؤثرات الخارجية لتلك الحقبة، وأن المد اليساري العالمي الذي عَرفَ منعطفا جليا في السنوات التي تلتْ الاستقلالات وقاد احتجاجات عمالية وطلابية في العالم أجمع سنة 1968 قد خلقَ أرضية تعبوية يُفترض فيها أن تمنح باسم الأممية حداًّ أدنى من القدرة على تجاوز الانتماءات الماقبل وطنية.
وصحيحٌ كذلك أن المناخ الأيديولوجي في العالم الثالث قد صبّ حينها في نفس الاتجاه لاسيما بالنظر إلى نوع العلاقة التي ربطتْ بذلك المناخ أنويةَ الحركات الشبابية الصاعدة محلّياً.
ولنتذكر تمثيلا لذلك أن المؤثـــــــــرات الدوليــــــة والإقليميــــــــــــــة قد قذفتْ في كثير من البـــــلدان شرائحَ معتـــــــــــــــــبرة من اليــــــــــــــسار القومي، بعد نكسة 1967، في صفوف اليسارات الأممية.
وهو ما يخول فهم أهم العوامل الخارجية التي مثّلتْ روافد ذلك الزخم.
غير أنه بغضّ النظر عن المحتوى الأيديولوجي المباشر لتلك المؤثرات فإن الأهمّ في انعكاسها الموريتاني كان في قنوات مرورها والصيغ التعبوية التي صدرتْ عنها.
لقد تسرّبتْ تلك المؤثرات عبر المدرسة والصحيفة والكتيّب والإذاعة والمركز الثقافي والخلية الحركية والإضراب العمالي والمظاهرة الطلابية وما شابهها.
أي أنها مرّتْ عن طريق الفضاءات المدنية أو شبه المدنية للاندماج الاجتماعي. وبذلك ارتبطتْ بميزان قوة جديد هشّ وغير متوازن ولكنه واعد، طرفاه دولة الخارج في علاقتها التدجينية مع المجتمع التقليدي من جهة، ومن الجهة المقابلة فضاء مدني وليد محاصر ومساحته محدودة ولكنّها تتوسع جدليا عبر صراعها مع وداخل مؤسسات دولة الخارج بأجهزتها الناشئة.
والمحصّلة الأهمّ هي ظهور واحتدام نشاط تعبوي يحملُ في انعكاساته ونتائجه - رغم مرحليته - مضمونا مواطنيا مترعرعاً بغض النظر عن المنطلقات الأيديولوجية الحصرية لنشطائه وفاعليه.
لم تختف بطبيعة الحال الهويات الجزئية ولا محتواها العظامي الذي يتخفى أحيانا كثيرة بشكل مفارَقي خلف الوحدوية الفوق وطنية أو - بصيغة أدق - الفوق قطرية، ولكنّ الدينامية المدنية خلقتْ مساحة إضافية تسمح بحد ّأدنى من التعدد داخل فضاء موحّد أو شبه موحّد من منطلق التشارك المواطني.
كانت تغييرات أواسط السبعينات مرحلة مترعة بالممكنات. وكان الظرف بعموم حيثياته (يشار عادةً في هذا السياق إلى الإجراءات الحكومية المعروفة مثْلَ مراجعة اتفاقيات التعاون وإصدار الأوقية سنة 1972 والتأميم الرمزي لميفيرما سنة 1974) قابلا لمنح الدولة دلالة جديدة مغايرة لما عنيته مَهْديا.
ولكنَّ منحًى سلبياً مناقضاً لدينامية توسيع الفضاء المدني سيتكشّف شيئا فشيئا بعد اندلاع حرب الصحراء سنة 1975، مع تزايد انعكاساتها التي قضتْ تدريجيا على جوانب كثيرة من تجليات الهامش المدني حتى قبل اللحظة الثخينة التي حملَها العاشر من يوليو.
هامش:
[1] “La grève s'étend à la totalité du personnel africain ; la production est paralysée ; toutes les rancœurs et les frustrations s'expriment soudainement. Ce n'est plus un conflit du travail mais la remise en cause soudaine de la société néocoloniale ». Cf. Jean-Louis Balans, Le développement du pouvoir en Mauritanie, L'université Bordeaux-I, 1980, p. 548.