لم أكن في منتصف الثمانينات لأتخيل نفسي أستاذا، فقد كنت أكره تلك المهنة كرها شديدا. وربما يكون سبب ذلك أني كنت من أكثر الطلاب مشاغبة، وكنت أخاف أن يبعث الله لي طالبا مشاغبا ومزعجا مثلما كنت، عندما أصبح أستاذا. ولكن رغم ذلك الكره الشديد فقد بذلت في مطلع العام الدراسي 1985ـ 1986 جهودا كبيرة لكي يُسْمَح لي بالترشح في مسابقة اكتتاب
الأساتذة التي نظمت في ذلك العام.
لقد اضطررت لأن أترشح لتلك المسابقة لأن الخيارات كانت بالنسبة لي محدودة جدا. فإما أن أكون أستاذا، وإما أن أسجل في جامعة نواكشوط الفتية حينها، والتي لا زالت حتى يومنا هذا توصف بأنها فتية رغم أنها دخلت في عقدها الرابع، ورغم أنها لفظت ـ حتى الآن ـ عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل إلى آلاف الأسر المنهكة أصلا، وأجبرت تلك الأسر المنهكة على أن تواصل الإنفاق على من توقعت ذات يوم أن يصبح هو معيلها.
والحقيقة أن جامعة نواكشوط لم تكن فتية في أي يوم من الأيام. فقد ولدت هذه الجامعة بوجه طاعن في السن، مليء بالتجاعيد، وربما يعود ذلك إلى تسميتها بجامعة نواكشوط، فنواكشوط نفسها، والتي يقال عنها إنها عاصمة فتية، قد شاخت في وقت مبكر من عمرها، بعد أن طغت عليها ملامح الشيخوخة، وهي لا تزال تعيش طفولتها الصغرى.
ترشحت في ذلك العام لمسابقة دخول المدرسة العليا للتعليم، ولكن "السيدة با"، السيدة القوية في ذلك الزمن، والتي كانت مديرة المدرسة وقتها، رفضت السماح لي بالمشاركة في تلك المسابقة، بحجة أني لم أبلغ بعد سن الرشد، حسب ما تقول وثائقي الرسمية.
قالت "السيدة با" بأنها لن تفتح أبواب مدرستها لمراهق مثلي، لم يبلغ بعد عامه الثامن عشر، وقالت بأنها لن تسمح لي ولا لغيري من المراهقين بأن يتخرجوا أساتذة من المدرسة التي تتولى هي إدارتها.
قالت "السيدة با" كلمتها، ولم تكن هناك كلمة يمكن قولها في المدرسة العليا للتعليم بعد كلمة "السيدة با"، ذلك ما قاله لي العارفون بأمور الوزارة، وأكده لي كذلك كل من التقيت بهم من الطلاب القدامى في هذه المدرسة.
ورغم ذلك فقد اجتمعنا نحن الذين حرمتهم "السيدة با" ـ لسبب أو لآخر ـ من المشاركة في مسابقة الأساتذة، واتصلنا بوزير التعليم حينها، الوزير الذي أطال المقام بالوزارة ليفسدها أكثر، وأحدثنا أمام مكتبه ضجة كبيرة، اضطر بعدها لأن يرسل معنا مستشاره إلى "السيدة با"، لكي تسمح لنا بالمشاركة في المسابقة.
بعد تلك الضغوط، وبعد الكثير من الإجراءات الشكلية، سمحت لنا "السيدة با" بالمشاركة الشكلية في المسابقة، لأنها كانت قد قررت ـ فيما يبدو ـ أن لا تسمح لأي واحد منا بالنجاح في المسابقة، وهو ما كان.
لم يشفع لي لدى "السيدة با" بأني كنت سأقضي أربع سنوات (مدة التكوين في المدرسة)، من قبل التخرج، وسيصبح عمري بعد التخرج إحدى وعشرين سنة. أي أني لن أتخرج إلا بعد بلوغ سن بإمكان صاحبها أن يتحمل كامل المسؤولية. لم تقبل "السيدة با" بأن تحسب لي سنوات التكوين التي سأقضيها في المدرسة لأن حسابها كان لصالحي. ومن المفارقات الغريبة أنني بعد ذلك بأعوام ستحسب لي سنوات التكوين لأن حسابها لم يعد لصالحي، بعدما اقترب عمري من سن الأربعين، وأنا لازلت أبحث عن وظيفة. فكنت أمنع من المشاركة في بعض المسابقات عندما وصل عمري لست وثلاثين سنة بحجة أني سأقضي أربع سنوات في التكوين، ولن أتخرج إلا وعمري أربعين سنة، وهي السن التي كانت الوظيفة العمومية لا تقبل باكتتاب من وصل إليها.
هكذا دائما هي الإدارة الموريتانية، تطبق نص القانون، دون تأويل، عندما يكون ضد المواطن، وتأوله إذا ما كان في تأويله ما يمكن أن يتضرر منه مواطن عادي مثلي.
كان تصرف "السيدة با" بالنسبة لي تصرفا استفزازيا بامتياز، مثلها مثل ذلك الشرطي البائس في مدينة لعيون، والذي سمح لبعض أصدقائي ممن هم أكبر مني سنا، وأقل تعليما، بمتابعة جلسات المحاكمة بينما نصحني أنا بأن أذهب لألعب مع أصدقائي الأطفال على قارعة الطريق.
لقد سمحت "السيدة با" لطلاب كانوا أقل مني مستوى بأن يكونوا أساتذة، بينما رفضت أن تسمح لي أنا بأن أكون أستاذا لمادة الفيزياء، أنا الذي كنت أتوقع بأن أقل وظيفة تليق بشخصي الكريم هي أن أكون خبيرا أو عالما في أشهر وكالة عالمية للفضاء.
لقد أهانتني "السيدة با" في ذلك العام، ولم يكن أمامي إلا أن أبتلع تلك الإهانة، وأن أسجل في قسم الاقتصاد بجامعة نواكشوط الفتية.
كان تخصص الاقتصاد بالنسبة لي مجرد تخصص بلا معنى. ولم أستطع أن أحب مادة الاقتصاد كما كنت أحب مادة الرياضيات. ولكنني في المقابل لم أكن أكرهها كما كنت أكره مادتي الجغرافيا والعلوم الطبيعية.
سجلت في قسم الاقتصاد ذات خميس صادف الواحد والثلاثين من أكتوبر من العام 1985م. وكان لذلك اليوم شأن كبير في المسودة الأولى من هذه الرواية عندما كانت تحمل عنوان: "أعقاب سجائر رخيصة". وقد خُصِصَتْ لذلك العنوان حينئذ عدة صفحات تمت صياغتها مرات عديدة، مما أزعج الكاتب كثيرا، ولكن في هذه اليوميات لن يكون لذلك الخميس أي شأن يذكر. وأرجو أن لا تسألونني عن سبب تغير حال هذا اليوم في نسختيْ الرواية، لأن ذلك أحد أسرار هذه اليوميات التي لن أبوح لكم بها إطلاقا، ولن يكشفها لكم الكاتب، حتى ولو طلبتم منه ذلك لأنه كان قد وقع عند البدء في إطلاق مشروع كتابة هذه اليوميات على مجموعة من الشروط، كان من بينها شرط واضح وصريح جدا يحرم التحدث عما جرى في ذلك الخميس.
في قسم الاقتصاد تعرفت على الكثير من الزملاء والأصدقاء الجدد، كما تعرفت أيضا على العديد من الأساتذة بعضهم كان يعاملني باحترام شديد، وكأني لست طالبا لديه، والبعض الآخر كان يتعامل معي بوصفي طالبا مزعجا كان القسم سيكون رائعا لو لم يكن أحد طلابه.
والحقيقة أني كنت دائما هكذا خلال كل مراحل دراستي، ولم يحصل أن تغير سلوكي في أي مرحلة من مراحل دراستي.
كنت في كل مرحلة دراسية، وفي كل عام دراسي، أتعرف على معلمين أو أساتذة جدد، وكانت علاقتي بهم تتحدد في الأيام الأولى من كل سنة.
كان بعضهم يعاملني، ومنذ أول يوم، باحترام كبير، ولم يحدث أن خيبت ظن أي واحد من أولئك المعلمين أو الأساتذة الذين كانوا يعاملونني باحترام في أول لقاء.
وكان بإمكاني دائما، أن أجعلهم يشعرون بأنهم لم يخطئوا عندما احترموني منذ لحظات التعارف الأولى. وكان بإمكاني أن أظهر لهم أدبا جما كلما قابلتهم، وأن أفاجئهم في كل حين بحركة أو بتصرف ما يعزز من ذلك الاحترام.
وفي المقابل فإني أيضا لم أخيب ظن أولئك الأساتذة الذين أظهروا، ومنذ اللحظات الأولى، انزعاجا شديدا من وجودي في الفصل.
فقد كان بإمكاني أيضا، وفي كل حصة، أن أقوم بحركة ما، أو بتصرف ما، يؤكد لأولئك الأساتذة الذين أساؤوا الظن بي، منذ اللحظات الأولى، بأنهم لم يخطئوا عندما أساؤوا الظن بي، بل إنهم أصابوا، عندما توقعوا بأني سأزعجهم كثيرا.
لقد كنت شخصا غريبا في سلوكي، على الأقل في هذه الجزئية، فكان بإمكاني أن أكون دائما عند حسن ظن من أحسن الظن بي من الأساتذة والمعلمين، وأن أكون ـ في نفس الوقت ـ عند سوء ظن من أساء بي الظنون منهم.
وكان بإمكاني دائما، وفي كل سنة دراسية، أن أترك انطباعين متناقضين جدا لدى أساتذتي في كل عام دراسي. فمنهم ـ وهذه هي الغالبية ـ من كان يعتبرني أسوأ طالب صادفه في كل حياته المهنية، وفيهم من كان لا يجد أي حرج في أن يقول لطلابه ولزملائه من الأساتذة بأنه لم يصادف في حياته المهنية طالبا أحسن خلقا مني، ولا أكثر اجتهادا ومثابرة.
ولقد كان أستاذ الإحصاء في جامعة نواكشوط "محمد الصغير ولد محمد تقي الله" رحمه الله تعالى، واحدا من أولئك الأساتذة الذين كانوا يعتبرونني من أحسن الطلاب خلقا.
وأتذكر أنه في يوم من الأيام، قال لطلاب الفصل بأنه كان يتمنى لو كانوا جميعا مثلي : خلقا، واجتهادا، وذكاء، ومثابرة، وهي الأمنية التي استغربها الطلاب كثيرا، لأنهم عرفوني فوضويا ومشاغبا، لا أصل إلى الفصل إلا متأخرا، وأخرج منه ـ في الغالب ـ مبكرا، ولا أستمع للمحاضرات في ذلك الجزء القصير من الحصة الذي أقضيه داخل الفصل، ولا أملك دفاتر، وقليلا ما أكتب المحاضرات كما كان يفعل غيري من الطلاب.
لقد كان أستاذ الإحصاء رحمه الله تعالى يعتقد بأني كنت أملك دفترا للإحصاء، وأني كنت أكتب فيه الدروس، وأني كنت أراجع ـ وبانتظام ـ تلك الدروس ليلا.
وربما يكون أستاذ الإحصاء، رحمه الله تعالى، قد اعتقد ذلك نتيجة لمشاركتي الجيدة أثناء حصته، أو نتيجة للعلامات المتميزة التي كنت أسجلها في اختباراته، والتي كانت تشكل دائما أفضل نتيجة على الإطلاق في مادتي الإحصاء والرياضيات المالية اللتين كان يدرسهما لنا في الجامعة.
والحقيقة أني لم أكن بحاجة لمراجعة المواد ذات الطبيعة الرياضية، أو الاهتمام بها أصلا، حتى أسجل فيها نتائج مميزة. ذلك أن خلفيتي الرياضية ونبوغي المبكر في هذه المادة، كانا كافيين لتسجيل نتائج مميزة، بل كانا كافيين ـ مع قليل من الجهد ـ لتدريس المقررات التي كانت تدرس لنا في ذلك الوقت، لو أنه تم تكليفي بتدريسها.
ومن بين الأساتذة الذين كانت علاقتي بهم جيدة يمكن أن أذكر الرئيس الحالي لحزب "عادل"، الأستاذ "يحيى ولد الوقف"، والذي درسنا مادة التخطيط في السنة الرابعة في أول عام يدرس فيه بالجامعة. ولقد سجلت في امتحان مادته أعلى نتيجة في ذلك العام نظرا لأنها كانت من المواد التي تعتمد شيئا ما على الرياضيات.
وبالمناسبة فقد درسني أيضا، في السنة نفسها، الرئيس الحالي لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية، الأستاذ "محمد محمود ولد محمد الأمين" مادة المالية العامة. وكان هذا الأستاذ من الأساتذة الذين كانت علاقتي بهم سيئة. ولقد سجلت في مادته نتائج متدنية جدا، تعكس طبيعة العلاقة المتوترة التي كانت تربطني به.
ودرسني كذلك محافظ البنك المركزي المساعد، الأستاذ "محمد عمارو"، والذي سيتم اتهامه ـ فيما بعد ـ في ملف رجال الأعمال. ولقد كان هذا الأستاذ من الأساتذة الذين ربطتني بهم علاقة جيدة، وكانت نتيجتي في مادة الاقتصاد القياسي التي كان يدرسها لنا في السنة الرابعة هي أعلى نتيجة تم تسجيلها في مادته في ذلك العام.
لم أكن أهتم كثيرا، لا في داخل الجامعة ولا في خارجها، بالمحاضرات ولا بالمناهج المقررة، ومع ذلك فقد كنت أميل كثيرا للقراءة. وكان المهم بالنسبة لي أن يكون ما أقرؤه غير ذي صلة بالمقررات الدراسية.
كان بإمكاني أن أقضي الساعات الطوال وأنا أقرأ أي كتاب أو مجلة أو جريدة أو أي مكتوب آخر يصادفني، مهما كانت طبيعة ذلك المكتوب، المهم أن لا تكون له صلة بما أدرس. لقد قرأت خلال دراستي، ومن الغلاف إلى الغلاف، مئات الكتب التي لا صلة لها بتخصصي، فقرأت الكثير من الروايات والقصص، وقرأت كتب السياسة، وكتب علم الاجتماع، وكتب الأدب، وكتبا أخرى لا يمكن تصنيفها، وقرأت كذلك كتب التاريخ في مرحلة لاحقة، بعد تجاوزي للمرحلة الثانوية، وبعد أن انفصلت هذه المادة الوديعة عن مادة الجغرافيا الكئيبة. ولكني مع ذلك لا أذكر بأني قرأت عشر صفحات متتابعة من أي كتاب في الاقتصاد، ليس بسبب كره هذه المادة، وإنما لكوني كنت أتهم كتبها في ذلك الوقت بأنها قد تكون ذات صلة بما أدرس، حتى كتب القانون هجرتها كما هجرت كتب الاقتصاد، لا لشيء إلا لأن القانون كانت تجمعه مع علم الاقتصاد كلية واحدة.
لقد كان عقلي مشاكسا، ولذلك فقد كنت أرفض دائما أن يلقنني الآخرون أفكارا جاهزة، مهما كانت طبيعة تلك الأفكار، كما كنت أكره المقررات الجاهزة كرها شديدا، وأعتقد بأن ذلك كان من بين الأسباب التي جعلتني أفشل في أن أكون ناصريا متميزا. كما أنه أيضا كان من أهم الأسباب التي جعلتني أفشل في أن أكون مناضلا حزبيا في أي حزب سياسي من الأحزاب السياسية التي تزخر بها الساحة الوطنية.
لقد كانت مقررات الجامعة في ذلك الوقت، وأعتقد بأنها لا زالت كذلك حتى الآن، مجرد مقررات تلقينية تعمل على تحييد العقل، ولذلك فقد كرهتها كرها شديدا.
ولم تكن مقررات الجامعة هي الشيء الوحيد الذي يعمل على تحييد العقل. فكل ما في هذا البلد هو مجرد مقررات تلقينية. ويظهر ذلك بشكل جلي في عمل الحركات الإيديولوجية، والأحزاب السياسية، والتي تعتمد على التلقين وعلى تحييد العقل في نشر أفكارها وبرامجها، إن كانت لها أصلا أي أفكار أو برامج.
كانت جامعة نواكشوط بالنسبة لي مجرد محطة عابرة، في رحلتي العلمية، والتي لم تعد لها بوصلة، منذ أن فشلت في الحصول على منحة، لأتخصص في مادة الرياضيات، وهي المادة التي كنت أعتقد بأني لو تخصصت فيها لكنت شيئا مذكورا، يختلف تماما عن حالي الآن: شخص عادي جدا، يعيش متنقلا بين هوامش المكان وفواصل الزمن، ويثير الشفقة أكثر مما يثير الحسد.
لم تكن الجامعة بالنسبة لي محفلا للتحصيل العلمي، ولكنها كانت مجرد مكان للتعرف على زملاء وأصدقاء جدد، أو لتعميق صداقات أخرى، بدأت بالمرحلة الثانوية ولم تنته بالمرحلة الجامعية.
وكان من بين من تعرفت عليهم في الجامعة، وفي السنة الأولى من قسم الاقتصاد، الرئيس الحالي لجامعة لعيون الإسلامية، والوزير السابق للتعليم في وزارة ولد الوقف التي تم الانقلاب عليها.
كان الطالب "محمد أعمر" واحدا من أهم أصدقائي الذين تعرفت عليهم في الجامعة. ولقد شكلت أنا وهو مع أصدقاء آخرين مجموعة موحدة للمراجعة. وكان هذا الصديق يختلف معي في أشياء كثيرة، فهو كان طالب منظم جاد، وإن كانت جديته لا تخلو من سخرية في بعض الأحيان، بينما كنت أنا فوضويا ساخرا، وإن كانت سخريتي لا تخلو من جدية في بعض الأحيان. كان تخصصه أدبيا، وكان ضعيفا في الرياضيات، ولكنه كان جيدا في المواد الأدبية، وكان ثرثارا رائعا، بينما كنت أنا قويا في الرياضيات، ضعيفا أو على الأصح، مهملا للمواد ذات الطبيعة الأدبية، وكنت أجد صعوبة كبيرة في مواصلة الحديث عن أي موضوع لخمس دقائق كاملة.
كان "محمد أعمر" منظما لدرجة يستحيل فيها أن تعرف متى سحب ثوبه من عند الغسال، ولا متى حلق شعر رأسه عند الحلاق، إن كان أصلا يحلق عند الحلاق. لقد كان طول شعر رأسه ـ منذ عرفته ـ ثابتا لا يتغير بسنتيمتر واحد، وهو ما جعلني أتهمه بأنه كان يحلق شعر رأسه بنفسه، وأنه كان يقوم بذلك خفية، وبشكل يومي، مما جعل طول شعر رأسه ثابتا لا يتغير أبدا. أما أنا فكنت على العكس تماما، فكان ثوبي يتسخ في كثير من الأحيان، لذلك فقد كنت ألفت الانتباه عندما ألبس ثوبا نظيفا، وكان بإمكان الجميع أن يعرف متى سحبت ثوبي من عند الغسال، وكان بإمكانهم كذلك أن يعرفوا متى مررت بالحلاق.
ولقد تمكن "محمد أعمر" من تسجيل الرقم الأول في دفعتنا، ولقد استفاد كثيرا من ثرثرته في الامتحانات الشفهية.
كان الطالب "محمد أعمر" منظما جدا، ولكنه كان يتحول إلى شخص فوضوي جدا، إذا ما قورن بطالب آخر كان من بين مجموعتنا، إنه الطالب "محمد الخطاط"، والذي لا يمكن أن تراه في تلك المرحلة إلا وهو يرفل في ثوب شديد النظافة.
كان هذا الطالب في معظم أحواله لا يأتي إلى الجامعة، إلا وهو يخفي عينيه بنظارات فاخرة، ويلف معصمه الأيسر بساعة فاخرة، ويتعلق بجيب دراعته قلم فاخر، هذا فضلا عن الحقيبة الفاخرة التي كان يحملها دوما، والتي تكون في العادة مليئة بالدفاتر وبالأوراق الفاخرة.
وكان هذا الطالب كثيرا ما يشاهد وهو يُخْرج مناديل ورقية لتنظيف الكرسي الذي سيجلس عليه، وكذلك جزء الطاولة الذي سيضع عليه حقيبته وأوراقه.
كانت أوراق ودفاتر"محمد خطاط" الفاخرة تغريني كثيرا في أوقات المراجعة، ولذلك فقد كنت أناضل كثيرا حتى يرخص لي بالاستعانة بها في تلك الأوقات. كانت أوراقه ودفاتره تفتح شهية أكثر الطلاب كسلا للمراجعة، وكنت دائما بحاجة لما يفتح شهيتي للمراجعة في الليالي التي تسبق الامتحانات، أما في غير تلك الليالي فلم أكن لأتعب نفسي بالمراجعة.
وكنت أجد دائما صعوبة في أن أعيد لمحمد خطاط دفاتره وأوراقه على حالها الأصلي، وهو ما كان يتسبب في غضبه وسخطه. كان "محمد الخطاط" منظما في كل شيء، حتى في عدد السجائر التي يدخنها سنويا. فكان يدخن ـ حسب بعض الإحصائيات في الفصل ـ سبعين سيجارة في العام، ففي كل يوم كان يدخن سيجارة واحدة، لا يزيد عليها، إلا في أيام الشتاء الباردة جدا، أو في الأيام الاستثنائية في حياته، والتي كان يدخن فيها سيجارة ثانية زيادة على السيجارة المعهودة.
وللأسف الشديد فإن هذا الزميل هو الوحيد من بين المجوعة الذي لم تعد لي به صلة من بعد التخرج، وذلك لأنه كان قد ترك العاصمة في وقت مبكر ليستقر نهائيا في نواذيبو، وتنقطع عني أخباره. ولا أدري إن كان لا يزال صامدا على منهجه الدقيق في الحياة، وعلى أناقته، أم أن المجتمع وظروف الحياة قد شغلاه عن ذلك.
كان أيضا من بين الطلاب الذين درسوا معي في الجامعة، والذين تمكنوا من الحصول على وظائف سامية، الوزيرة السابقة "فاطمة بنت خطري"، والتي عُرفت بالنضال في التيار الناصري، وهي لا تزال طالبة في الثانوية. وأظن بأنها اعتقلت مرة، فكانت بذلك هي أول طالبة أسمع عن اعتقالها. وهذا ليس إلا مجرد ظن، ولا يمكنني أن أتأكد منه الآن، رغم وجود رصيد بهاتفي، ونادرا ما يكون به رصيد، يكفي للاتصال بالوزيرة السابقة، للاطمئنان على حالها، وللتأكد من صحة هذه المعلومة. .
لا أستطيع أن أتصل بالوزيرة الآن، لأن ذلك سيخل بشرط أساسي اشترطته على نفسي، عند البدء في سرد هذه اليوميات، وهذا الشرط يفرض عليَّ أن لا أعتمد إلا على ذاكرتي في سرد أحداث هذه اليوميات.
وما أستطيع أن أجزم لكم به هنا هو أن هذه الوزيرة المنحدرة من أسرة لها ثقلها الاجتماعي والسياسي في الحوض الشرقي، كانت ممن ناضل بقوة في الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية، وكانت من أبرز المناضلات اللواتي قررن أن يلبسن جلابيب النضال بعد انقلاب السادس من أغسطس 2008.
وقبل ذلك بثلاث سنوات كانت "فاطمة بنت خطري" تشغل وظيفة مديرة مساعدة في "سونمكس". تلك الوظيفة التي جرت العادة أن تتنقل صاحبتها مباشرة إلى وزيرة للمرأة، هذا هو ما حدث مع أغلب الوزيرات اللواتي تم تعيينهن في عهد الرئيس "معاوية" على رأس وزارة المرأة، لذلك فقد جاء انقلاب 3 أغسطس 2005 صادما ـ على الأقل في ظاهره ـ للمسار الوظيفي لفاطمة بنت خطري.
ولكن مع ذلك فسيتم تعيينها وزيرة للمرأة، في أول حكومة يعينها الرئيس "سيدي ولد الشيخ عبد الله"، وستظل تلك هي وظيفتها حتى فجر السادس من أغسطس 2008.
كان أيضا من بين زملائي في الجامعة، والذين تمكنوا من الوصول إلى وظائف سامية، الطالب "أحمدو ولد محمد الراظي"، وهو الطالب الذي سيصبح فيما بعد موظفا في هيئة البريد والمواصلات، ثم موظفا في "موريتل"، ثم أمينا عاما في وزارة الوظيفة العمومية، ثم وزيرا للتعليم الأساسي، فوزيرا للدفاع الوطني، وهي الوظيفة التي يشغلها حاليا.
و"أحمد ولد محمد الراظي" معروف ببساطته وبتواضعه الجم، وقد استطاع أن يحافظ على ذلك التواضع، حتى من بعد أن أصبح وزيرا. فهو لا يزال يسكن في منزله في مقاطعة عرفات، ذلك المنزل الذي ظل خاليا من أي حارس، في فترة توليه وزارة التعليم الأساسي، وبعد أن أصبح وزيرا للدفاع، واضطر لأن يأتي بحرس، جاء بحرس، ولكن ظل وجودهم شكليا أمام المنزل. ولقد شهدت النائب "لمات منت مكي" المعروفة بنقدها القاسي لوزراء الحكومة على تواضعه وبساطته، وذلك عندما شكرته في إحدى مداخلاتها لأنه لا يزال يصر على أن يدرس أبناءه في ثانوية عمومية كثانوية عرفات.
وكان من بين زملائي كذلك الطالب "عبد الله ولد محمد محمود"، والذي ـ حسب علمي ـ كان هو الطالب الوحيد من بين دفعتنا الذي التحق بالإدارة الإقليمية. ولقد بدأ مساره الوظيفي برئيس مركز "أطويل" الإداري من قبل أن يعين حاكما لمقاطعة "أمبود"، تلك المقاطعة التي مكث فيها طويلا، وخلال الانقلاب الأخير، كان واليا لاترارزة، وهو الآن يعمل مستشارا لوزير الداخلية.
كذلك كان من بين زملائي في الجامعة الطالب "أحمدو سالك ولد بياه"، والذي سيصبح فيما بعد، هو الطالب الأكثر شهرة على موقع تقدمي من بين كل دفعتنا، حيث سيتحدث عنه هذا الموقع كثيرا، خصوصا في مقالات الرأي الموقعة باسم كاتبات الموقع. ولقد ارتبط اسم هذا الصديق باسم "كمال" ابن عم الرئيس، في أغلب الأخبار والمقالات التي تم التطرق فيها إلى فضائح "كمال" المثيرة، وإلى خططه الإعلامية الداعمة لابن عمه الرئيس الحاكم.
ولقد سألت "أحمدو سالك" مرة عما ينشر عنه في موقع تقدمي، فقال لي بأن ذلك مجرد افتراءات تستهدفه شخصيا، ولا يعرف لِمَ يستهدفوه دائما في هذا الموقع؟
كان "أحمدو سالك" طالبا متميزا، ولقد تمكن من أن يأتي الأول في شعبة التخطيط في عام التخرج. ولقد بدأ حياته المهنية في البنك الموريتاني للتجارة الدولية، وأعتقد بأنه كان ممن ناضل فترة من الزمن في حزب "التكتل"، من قبل أن يلتحق بالأغلبية الحاكمة، وهو الآن يشغل نائب المفتشة العامة للدولة.
وكانت من بين زملائي كذلك، الطالبة "أمعيزيزة بنت محفوظ ولد كوربالي"، والتي تشغل حاليا منصب الأمينة العامة لوزارة المالية، تلك الوظيفة التي وصلت لها من بعد أن تقلدت عدة وظائف في وزارة التنمية الريفية. وهذه الزميلة كانت قد اتصلت بي مرة بالهاتف واستدعتني إلى مكتبها، لتعلن لي عن تعاطفها معي في رحلة البحث الطويلة عن وظيفة، وعن استعدادها الكامل للمساعدة في هذا المجال، فلها الشكر على ذلك الموقف النبيل، ولأحمدو سالك أيضا الشكر، والذي كان من قبل ذلك، قد أعلن هو الآخر عن استعداده الكامل لفعل أي شيء، حتى لا يظل "أذكى" واحد في الدفعة بلا وظيفة لائقة.
هؤلاء هم زملائي في الجامعة الذين احتلوا وظائف سامية، أما بالنسبة للأغلبية من زملائي فلم تكن طريقهم سالكة بالمرة. ولكني لن أحدثكم عنهم في هذه اليوميات، لأن اليوميات بكاملها قد تم تخصيصها لسيرة واحد منهم، لم تكن طريقه سالكة، ولعل من خُصِصت له هذه اليوميات، كان أكثر من في الطائفة الثانية تعثرا في رحلته، وذلك بعد أن اختار أو أجبر ـ وكلاهما صحيحة ـ على أن يسلك الطريق الأكثر وعورة، ليشبع بذلك روح التحدي لديه، تلك الروح التي ظلت تزداد عنفوانا، كلما زاد عدد عثراته.
ولا يمكنني أن أكمل الحديث عن دفعتي في الجامعة، دون أن أترحم على روح الطالبة الفاضلة "لميمة بنت الهاشم"، والتي اختطفها الموت وهي لا تزال في عز شبابها.
كانت "لميمة" رحمها الله تعالى، تتميز عنا جميعا، بخلقها، وبجديتها، وبانشغالها بدراستها، وبتركيزها على طلب العلم، ولم يكن كونها ابنة لأسرة ميسورة ليؤثر سلبا على جديتها في الدراسة، لذلك فقد ظلت دائما من المتفوقات المتميزات في الفصل حتى تخرجت لتعمل في وزارة التخطيط، وتحديدا في خلية إعادة الاعتبار للقطاع العمومي.
وأتذكر أنه في يوم من الأيام، جاءتنا "لميمة" رحمها الله تعالى، وأعتقد بأن ذلك كان في صفنا الثالث في الجامعة، لتخبرنا بأنها كادت أن تموت بسبب التماس كهربائي، جدث في منزل أهلها بتفرق زينة نتيجة لأمطار تهاطلت في ذلك الوقت، على ما أذكر.
وأتذكر أن "لميمة" رحمها الله تعالى، قالت لنا بعد تلك الحادثة التي كادت أن تتسبب في وفاتها، بأن ما أزعجها حقا هو أنها كانت تعلم بأنها لو توفيت فعلا، بسبب تلك الحادثة، فإن الجميع سيكتفي بأن يتحدث عنها قليلا، ويحزن لها قليلا، من قبل أن ينساها الجميع، وكأنها ما عاشت يوما على هذه الأرض.
رحم الله "لميمة بنت الهاشم" رحمة واسعة، وأدخلها فسيح جناته. لقد حدثتنا في نهاية الثمانينات عما كان سيحدث لها بعد ذلك، وكأنها كانت تراه. ولقد استطاعت بكلماتها البسيطة العميقة تلك أن تتحدث عن مصيرنا جميعا.
فكل واحد منا سيترك في يوم قادم لا محالة، هذه الحياة الخداعة، وسيتحدث عنه وقت رحيله، قليل من الناس أو كثير، وسيحزن له قليل من الناس أو كثير، ولكن في النهاية لن يكون باستطاعته أن يشغل أولئك الذين تحدثوا عنه، وحزنوا له، إلا وقتا قليلا، من قبل أن يتناسوه، وكأنه ما عاش يوما على هذه الأرض.
أقول هذا الكلام لأني أعلم ـ يقينا ـ بأن هذا الشخص العادي جدا الذي يحكي لكم سيرته، سيترككم حتما يوما ما، وهو عندما يترككم، فلن تتحدثوا عنه إلا قليلا، ولن تحزنوا لرحيله إلا قليلا، وستتناسون جميعا أمره، وكأنه ما عاش يوما على هذه الأرض.
ولقد كاد شيء من ذلك أن يحدث في ليلة مخيفة من ليالي العام 2000 على ما أعتقد، واعذروني فهناك أحداث في حياتي لا أستطيع أن أحدد لكم بشكل يقيني وقطعي السنة التي جرت فيها تلك الأحداث.
أذكر أني قبل تلك الليلة المخيفة، كنت أصف دائما زوجة أحد أصدقائي بوسع الخيال، كلما حدثتني عن قصة "وفاتها" في ليبيا، والتي حدثت في إحدى المستشفيات الليبية، عندما كانت تستشفي هناك، من مرض شديد ألم بها أثناء إقامتها في ليبيا.
كانت زوجة صديقي تؤكد لي دائما بأنها ماتت فعلا، وأنها سمعت الأطباء هناك وهم ينعونها، وأن كل تفاصيل حياتها مرت عليها، في لحظة قصيرة جدا، من قبل موتها.
كانت تتحدث عن وفاتها وكأنها حدثت فعلا، وكنت أنا أسخر من حديثها عن قصة وفاتها، والتي لم أكن أعتبرها إلا مجرد خيال في خيال، نتيجة لشدة المرض، أو نتيجة لخوف زوجة صديقي من الموت، مما جعلها تتوهم بأنها ماتت فعلا.
ولكن الذي حدث معي بعد ذلك، جعلني آخذ قصة موت زوجة صديقي، على محمل الجد، وهذا لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ بأني أصدق موتها، فهي بالتأكيد لم تمت، ودليلي على ذلك هو أنها لازالت ـ أطال الله في عمرها ـ على قيد الحياة.
وبالتأكيد فإني أنا أيضا لم أمت في تلك الليلة المخيفة التي خُيِّل إليَّ أني مت فيها، والدليل على ذلك هو أني ـ ولله الحمد ـ لازلت حيا أرزق، أسرد حلقات يوميات حياتي، بما فيها أحداث تلك الليلة المرعبة، ولكن مع ذلك لا أستطيع أن أصف لكم ما حدث في تلك الليلة المخيفة، إلا أنه كان بمثابة تجربة موت حقيقي، كتب الله لي من بعدها عمرا إضافيا، وله الحمد والشكر على ذلك.
لم أكن مرتاحا، في أول تلك الليلة التي "سأموت" في آخرها، ولكني مع ذلك لم يكن بإمكاني أن أحدد بالضبط الشيء الذي كنت أشكو منه. ولقد اعتقدت في البداية بأن الأمر مجرد إرهاق يحصل دائما في أول أيام عيد الفطر، خاصة وأني قبل ذلك العيد، كنت قد اعتكفت ـ ولأول مرة في حياتي ـ في المسجد الذي كنت نائبا لمؤذنه، لعشرة أيام من رمضان (العشر الأواخر).
في تلك الليلة المرعبة، ذهبت إلى فراش النوم، وأنا لازلت أشكو من شيء ما، لم أتمكن من تحديده، وبعد مرور وقت لا أعتقد بأنه كان طويلا، حدثت أشياء مخيفة ومرعبة، يستحيل أن أصفها لكم كما حدثت في تلك الليلة، ولكني مع ذلك سأحاول أن أصف لكم بعض اللقطات السريعة التي لا تزال عالقة بالذاكرة.
صحيح أني تألمت في تلك الليلة، ولكن المشكلة لم تكن في آلامي، فهي لم تكن فظيعة جدا، كما أنه لم يكن بالإمكان تحديد مصدرها، أو طبيعتها.
عندما بدأت الحالة تزداد سوءا، أخذت أقرأ سورة الكهف، ولا أدري إن كنت قد تمكنت من مواصلة قراءتها أم لا؟ الشيء الذي لا يزال عالقا بذاكرتي، هو أني استعدت إدراكي لحظة ما، فوجدتني أتلو الآيات المتعلقة بحوار موسى عليه الصلاة والسلام مع العبد الصالح، ثم بعد ذلك لم أعد قادرا على التلاوة، حتى ولو كانت تلاوة بالقلب.
تمثل لي البحر وكان مظلما مرعبا، ولكن كان بإمكاني دائما، رغم ظلامه أن أشاهد السفينة وهي تتقاذفها الأمواج. ولقد أحسست بأن هناك علاقة ما، بيني وبين تلك السفينة التي تتقاذفها الأمواج المتلاطمة، وبدأت أحس شيئا فشيئا ـ عكس ما تخيلت أول الأمر ـ بأن هذه السفينة التي أشاهدها الآن ليست هي السفينة المذكورة في سورة الكهف.
ثم بعد ذلك بدأت الأمور تزداد تعقيدا، وبدأت الأحداث المفزعة تتسارع، وبدأت روحي تخرج من جسدي. كان جسدي يتصصب عرقا، وكنت أحس بذلك، ولكني لم أكن قادرا على التصرف في هذا الجسد الذي بدأت أشعر بأنه انفصل عني، وأصبح ينتمي إلى عالم آخر، فقدت القدرة على التواصل معه.
حتى أولئك الذين كانوا ينامون بجنبي في الغرفة، كنت أحس بوجودهم، ولكني لم أكن قادرا على الاتصال بهم، بل وكنت أشعر في تلك اللحظات بأني لن أقابلهم إلا في عالم آخر، غير هذا العالم الذي سأغادره بعد لحظات معدودة.
تمثلت لي حياتي، وما جرى فيها من أحداث، في لحظة قصيرة كأنها ثانية واحدة، إن لم تكن أقل، تماما كما حدث مع زوجة صديقي عند موتها.
بدأت أشعر براحة غريبة، ولكن كان يتخللها شيء من الألم، وبسعادة غير متوقعة ممزوجة بشيء من القلق، وبشيء من الهدوء لا يخلو من فزع.
كان بإمكاني أن أتابع ذلك الحدث الجلل الذي كان يحدث في تلك اللحظات. كان جسدي يبتعد عني، بنفس المسافة التي كان يبتعد بها عني النائمون من حولي. كان كل شيء عرفته في دنياكم هذه يبتعد عني إلى ماض سحيق سحيق. وكانت روحي ترحل شيئا فشيئا إلى عالم آخر، كنت أتابع ذلك المشهد الفظيع بهدوء مثير.
واصلت روحي رحيلها إلى العالم الآخر، وواصل جسدي رحيله إلى ماض سحيق، كانا يرحلان في اتجاهين متعاكسين، وكنت "أنا" أتابع رحيلهما بهدوئي المثير.
واصل الموت اقترابه مني، وبدأ يغطيني بردائه، وكان كلما لف عضوا من جسدي، أيقنت بقرب النهاية. وبقيت أتابع المشهد الفظيع، الذي اكتمل في لحظات قصيرة بدت وكأنها دهرا، وكانت النهاية عندما لف الموت كامل جسدي، فعلمت أني قد متُّ.
تصبحون على الحلقة الثانية عشر...