عن الثورة الجزائرية والنظام الموريتاني والكادحين وبوليزاريو وانقلاب العاشر يوليو
في وزارة الدولة للسيادة الداخلية
مقت الرجل الكادحين الذين لا يرى فيهم منافسين غير أكفاء فحسب، بل وخوارج أيضا! وعاملوه بسخاء بالمثل! كان يجسد -في نظرهم- كل ما هو سلبي في نظام اعتبروه استعماريا, ويعزز من ذلك الشعور ما كان يتمتع به هو من كفاءة وصلابة ووعي فئوي! ولما لم يتمكن من قهرهم بالقوة خلال المواجهة، بل كانوا هم الذين قهروه حين أفشلوا خططه الأمنية، وأملوا برنامجهم السياسي على الدولة التي يحرسها! كرس جهود أجهزته للثأر منهم خلال فترة السلم، فتسور حاجز سرية تنظيمهم، خاصة بعد التحاق كاتب مركزيتهم المبكر بمصالح الداخلية! وتبنى الإقصاء، وأيد مدريد والحرب!
قبيل اندلاع الحرب بقليل قابلت معالي وزير الدولة للسيادة الداخلية في مكتبه بطلب مني، ودار بيننا حديث مسهب حول قضية الصحراء كاد يتحول في مناسبات عديدة إلى مشادة. وما زلت أتذكر، ولعله كذلك، حين وقفنا – وهو يودعني- أمام خريطة موريتانيا المعلقة على جدار مكتبه البسيط المرتب.
قال لي:
ـ "سنعتبركم خونة إذا لم تدافعوا عن الوطن!
فقلت له:
ـ "عندما يعتدى على هذا الوطن المرسوم في هذه الخريطة ـ وأشرت إليها ـ سوف ندافع عنه بشراسة منقطعة النظير، ولن ندافع عن سواه".
وعدني معاليه أن لا تكون موريتانيا البادئة بإطلاق النار! وأغلب الظن أنه وفى بوعده.
وافترقنا.. لنلتقي أواخر مارس 1981 في جوك حيث قضينا الظهيرة معا في جمع من المعتقلين، في طريق المنفى، على ذمة الشرطة! فحكا لي أسطورة مفسر أحلام هاو تتلون مواقفه من معلمه حسب ما عليه أحوال المجتمع! أوليست الرعية على قلب الأمير؟
***
ضم وفدنا إلى جانبي السيد الطالب محمد بن لمرابط، الذي قدم من فرنسا لنفس الغرض، وأظن أن السيد يعقوب جالو (النقيب يعقوب جالو) الذي كان طالبا في الجزائر شارك في بعض تلك المباحثات. أما الوفد الصحراوي فقد تشكل في البداية من السادة محمد الأمين بن أحمد رئيس الوزراء، ومحمد سالم بن السالك، وأحمد باب مسكه، الذي تحفظنا عليه، وقابل تحفظنا بصدر رحب، وكان يلتحق بهم أعضاء ويتغيب آخرون حسب مشاغلهم.
في تلك الفترة، الثلث الأول من سنة 1976، كانت الحرب في عنفوانها. وكانت سياسة محور الجزائر ـ بوليزاريو تتلخص في نقطتين هما: التركيز على ضرب موريتانيا بصفتها الحلقة الضعيفة في سلسلة الأعداء، وتهجير سكان الصحراء وبعض قبائل الشمال الموريتاني، على أساس قبلي، إلى تيندوف ليكونوا في منأى عن تأثير المغرب وموريتانيا من جهة، ووقودا لأتون الحرب من جهة أخرى، وورقة دعائية رابحة من ناحية ثالثة.
تركزت المباحثات حول ذلك الخط، وكانت صعبة وطويلة.
كانت آراؤنا واضحة جدا، ومن السهل فهمها ممن كانت تجمعنا وإياهم اللغة والفكر والمبادئ.
قلنا للصحراويين إن خصمكم الرئيسي هو المغرب، وعليكم أن تركزوا عملكم السلمي والحربي على الوصول معه إلى حل، على أن تؤجلوا مواجهة موريتانيا إلى حين حسم نزاعكم معه. فإذا تم التوصل إلى حل مع المغرب فلن تشكل موريتانيا عقبة كأداء أمامكم. وإن غُلبتم يكون وادي الذهب الذي نحتله رصيدا وملجأ لذوي الدراريع. أما إحلال رابطة القبيلة، في جبهة ثورية، محل البرنامج السياسي والخط الثوري، فسيؤدي، علاوة على خطئه وتناقضه مع المبادئ الثورية، إلى تفكك الجبهة قبائل متنافرة المصالح بقدر اختلاف الجهات التي تنتجع فيها مواشيها. هذا فضلا عما ينجم عن القبلية من توتر ونزاع مع الدول المتاخمة للصحراء والتي تقوم الجبهة بتجنيد وترحيل مواطنيها. بينما يفترض انتهاج الثورة سياسة مرنة وصائبة تجاه تلك الدول حتى تكون ظهيرا وعونا لشعب الصحراء، لا عونا عليه!
بيد أن القلعة الحصينة التي احتمت بها المنظمة الصحراوية الوليدة من أعدائها، لم تترك لها في واقع الأمر كبير مجال للاختيار! كانت بوليزاريو، التي لم تطفئ بعد شمعتها الثالثة، قد شبت كثيرا عن الطوق، وكبرت بشكل خارق بفعل التعديل الوراثي والزق (لبلوح) اللذين تعرضت لهما بعدنا، حيث أصبح لها حكومة وجيش جرار قوي مسلح بصواريخ سام 7، وميزانية ضخمة لا تعرف التقشف أو العجز!
.. لذلك، كنا نتفق، بعد نقاش طويل في نقطة، على رأي الوفد الموريتاني ونسجل الاتفاق، وبعد أن نتفرق، ونعود للاجتماع ثانية، نجد قومنا قد غيروا آراءهم وعادوا من حيث بدأنا.. ورغم ذلك فقداتفقنا في نهاية المطاف! وأصدرنا بيانا مشتركا يفند سياسة الحلقة الضعيفة، وتتعهد فيه بوليزاريوبوقف عملياتها داخل موريتانيا، وتخفيف ضغطها في الجبهة الجنوبية، والتركيز بدلا من ذلك على جبهة الشمال، مع تحبيذ الحلول السلمية المتفاوض عليها.. رغم ما أبدوه من تحفظ على إمكانية التوصل إلى حل سلمي مع المغرب، ليس بسبب عدائية التناقض القائم، وإنما لعدم اطمئنانهم للتفاوض مع ملك داهية لا يسبر له غور. كما اتفقنا أيضا على نبذ القبلية كنهج سياسي، واحترام الحدود الاستعمارية، وتخلي بوليزاريو عن ترحيل واكتتاب الموريتانيين ذوي الأصول الشمالية!
في فيلا عزيزة
وفي فيلا عزيزة التي وصلنا إليها في رتل من السيارات الفخمة؛ والتي تبدو بمثابة مقر الحكومة الصحراوية، أعدوا لنا بعد توقيع الاتفاق عشاء فاخرا لم يكن مبرمجا من قبل، حضره جل القادة السياسيين، وجرى فيه نقاش مرتجل مفتوح بيني وبين المرحوم الولي حول نفس المواضيع التي نوقشت آنفا وتم الاتفاق حولها. قال الولي -رحمه الله- بانفعال وضيق غير معهودين، وكأنه يزيح جبلا عن كاهله، وكانت بيده برتقالة يقشرها: "النظرية جميلة ولكن الواقع عنيد.. هذه ليست سوى برتقالة! لقد غرق شعبنا ولن نغرق وحدنا.. لا بد أن يغرق معنا آخرون! أما القبلية فقد استطعنا أن نعبئ بها في شهر واحد ما لم نستطع تعبئته بالمبادئ الثورية في سنوات!
فاجأني هذا الموقف.
أكيد أن الولي -رحمه الله- لم يشارك في المباحثات، لكنهم كانوا يوافونه -في اعتقادي- بتفاصيل ما يجري! وقد حسمنا الموضوع وأصدرنا فيه بيانا! وهذه اللغة؟! ألا تتعارض مع الحقيقة المطلقة التي يدعي بعض منظرينا امتلاكها من طرف الصحراويين، كما تتعارض أيضا مع أفكار وقناعات نيرة عهدناها لدى الرجل الذي عاش بين ظهراننا؟
فهل هو مكره؟ أم صعقته سرعة الأحداث وفظاعة الحرب؟ قلت في نفسي!
على كل حال.. لا بد من مصارحته!
قلت في النقطة الأولى: "إنه لا داعي للتشاؤم والانتحار. فالشعب الصحراوي لم يغرق ولم تهزم ثورته. ودليل ذلك وجود رجاله متشبثين بحقوقه، وما ضاع حق وراءه طالب! وهب أنه فعلا غرق، فماذا يفيده إغراق شعوب المنطقة معه؟ ألا توجد حلول أخرى غير "علي وعلى أعدائي"، بل وحتى على أصدقائي أيضا!؟. أما بخصوص القبلية، فإنها، بالإضافة إلى ما قلناه عنها في مباحثاتنا، منافية لروح العصر، ومتعارضة مع روح الدولة الوطنية التي نطمح إليها، ورجوع سحيق عن الأفكار الثورية التي قامت عليها حركتانا، وعن المصالح العامة التي تخدمانها. وهي، كذلك، لا تسمح بالتمييز الدقيق بين عدو القضية وصديقها، بين من له مصلحة في التغيير ومن له امتيازات مرتبطة بالاستعمار يتشبث بها ويدافع عنها؛ كما أنها تذكي نزعات وحميات الجاهلية، وهي كفيلة غدا بتفريق كل ما تجمع اليوم!
لم يعقب أحد على حديثي!
أخبرونا بإلغاء رحلة كنا سنقوم بها في الطائرة إلى تيندوف!
تعانقنا بحرارة ونحن نتبادل عبارات وداع ما كنت أظنه أبديا!
* * *
وفي أقل من شهر من ذلك اللقاء، غزا الولي رحمه الله انواكشوط، بصورة مفاجئة، خلافا لما رسم بيننا في الجزائر! وقد تقرر مصيره المؤسف خلال تلك الغزوة!
هل كان الراجح لدى القوم ترشيحنا لرتبة طابور خامس، يقوم من الداخل، بدور محدد في كسر الحلقة الضعيفة! ولما لم نرض بذلك الدور، وأقنعنا الصحراويين بتعديل السياسة المرسومة، وجب إسقاطنا جميعا من المعادلة!؟
وهل كانت عملية انواكشوط خطة رسمت للتخلص من الولي؟ خاصة أن موته -رحمه الله- نجم عن خلل في خطة الانسحاب سببه إهمال بعض رفاقه كما يقال؟
بعض أسئلة تراودني بإلحاح، باحثة عن جواب، كلما فكرت في هذا الموضوع!
إلا أن ما أعلمه علم اليقين، هو أن المرحوم الولي كان رمزا للثورة الصحراوية. وبالقضاء عليه قضي على بعدين أساسيين في تلك الثورة هما: جماهيريتها، وبعدها الصحراوي البيظاني ذو الجذور الضاربة جنوبا.. وخلا الجو لكل من سولت له نفسه توجيه البندقية الصحراوية في غير وجهتها الصحيحة.. وانهمر الطوفان الذي تحدث عنه بمرارة تلك الليلة في فيلا عزيزة!
.. كان آخر عقبة في وجه التيه والانحراف!
لم نجر بعدها أي اتصال مباشر مع الجبهة، واكتفينا بتوجيه رسالة نقد واحتجاج إليها عن طريق فرنسا كان عنوانها "بوليزاريو ثورة أم عدوان؟"! ولا أتذكر أنهم ردوا عليها في يوم من الأيام!
وحلت محلنا في "مؤازرتهم" جماعات قلدتهم وعبدت عفويتهم وراهنت عليهم في تحقيق مآربها "الثورية"!
..وتواصلت سياسة "الحلقة الضعيفة" والعدوان الغاشم التي أهلكت الحرث والنسل. ومن الغريب أنها وجدت من بيننا من يقرها ويشجعها، بل ويشترك فيها بحماس! إلى أن تم إسقاط "النظام العشائري الموريتاني" من طرف جيش وجد بعض ضباطه غزو السلطة في عقر دارها أولى من منازلة العدو، صيفا، في الجبال والمهامه والوهاد!
وللحديث بقية!