إن جولة، بدليل الفضول العدلي، في شبابيك وإدارات قطاعات المياه والكهرباء وفي مصالح البلديات وغيرها من التي تشرف على الامتحانات والتشغيل وتمويل المشاريع وتقسيم الإسعافات والصفقات والقطع الأرضية الزراعية والسكنية، وفي مفوضيات الشرطة والمديريات، تنبئ هذه الجولة إذن المتأمل والباحث عن كثرة مواطن الخلل في ميزان العدل والمساواة بين المواطنين وعن ضعف وغياب حياد هذه الإدارات والمصالح والجهات. وهي الجولة التي لا بد أن تذهله كذلك بما ستكشف له من الحقائق المرة التي تنتمي بممارستها الغاشمة إلى عصر ولى وعقلية فوضوية عصية على التحول والتغيير.
ولا شك أن أولى هذه الملاحظات تتمثل في الحضور القبلي البارز بالأسماء والقرابات في المصالح الخدمية والإدارات التسييرية والتخطيطية نتيجة ترأس إدارتها من قبل منتمين لهذه الكيانات حتى بات من المعلوم تسميتها بها ـ من باب الفكاهة التي تحمل جوهر الواقع - وقد اتخذوها حظائرهم الخلفية وفضاءاتهم المملوكة لهم يطبقون فيها "انتقاء الأقارب" بهدف نفعهم وتحصين المكانة بهم ظهيرا وقوة لفرض الحضور بالوزن العددي في نظام الدولة التسييري والسياسي من ناحية، ولضمان النصيب من كعكة الدولة التي لا يتوقف تقسيمها بينهم على حساب التنمية الضعيفة وعامة الشعب المهمش بكل تقسيماته القبلية و الشرائحية و الإثنية، من ناحية أخرى.
وأما الملاحظة الثانية، التي لا تقل إيلاما أو خطورة على مسار دولة القانون "المشتهاة" والذي لا خيار سواه مع ذلك لبقائها وحفظها من مزالق الظلم والإقصاء والتهميش وسوء التسيير والفساد، فتتمثل في الزبونية والوساطة والظلم الصارخ والإيثار المتعمد لبعض المستفيدين من الأقارب والمحظيين على حساب البسطاء والفقراء وكل الذين لا أقارب لهم في هذه المصالح ضربا بعرض الحائط للجدارة والكفاءة وللمصلحة العليا من خلال نسف مبدئ "الموظف المناسب في المكان المناسب".
فهل يتبه الغيورون والمخلصون إلى هذا الوجه الخطير من الاستهتار بدولة المواطنة والقانون ويرفضون التفرج على هذا النمط الذي يأسر البلد في قمقم الماضي القبلي الطبقي الشرائحي ويرهنه للتخلف والضياع؟
فهل يحاسب المفسدون؟
في الجزائر والسودان بدأت الدائرة تدور على الذين عاثوا في مقدرات بلديهما والخناق يشتد حول رقبة الذين نهبوا خزينتيهما وبددوا ممتلكاتهما وأذاقوا الشعب مرارة الحرمان بمبتذل تسيير الميزانيات والاختلاس والفساد، والدولة ضعف التنمية وسوء المنقلب.
إنها الشعوب التي طالبت بذلك متحلية بالعزم والشجاعة والإصرار الشديد حتى أرغمت في النهاية السلطات وعلى رأسها الجيش والخيرين على النزول عند طلبها الشرعي ولتبدأ من بين إصلاحات أخرى سلسلة تحقيقات مع المتهمين بهذا الجرم الكبير حتى يردوا على السؤال الوجيه: من أين لهم هذا؟
ولكن الشعب في هذين البلدين كان أيضا منصفا فطالب أن تكون المساءلة قانونية ومبنية على أساس اتهامات واردة مدعومة بأدلة دامغة وحجج بالغة وبراهين ساطعة حتى لا يكون ثمة ظلم للمدعوين أمام القضاء بتهم الاختلاس والنهب والفساد واستغلال النفوذ ومواقع السلطة.
وهو الأمر الذي ستكون له تبعة إيجابية على مستقبل هذين البلدين حيث ستتحقق العدالة من بعد أن تأخذ مجراها الطبيعي وتقوم التنمية على أساس تسخير مقدرات وخيرات البلد للنهوض به وتحسين أحوال شعبه.
فهل نجنح قريبا إلى مثل هذه المطالبة الملحة، وما أكثر المفسدين بين ظهرانينا وأعظم ما اقترفوا ويفعلون من اختلاس واحتيال ونهب وفساد وحيف وتمييز وتهميش ألبسوه كل حلة قميئة وأشركوا فيه الجاهل والخب والغر والنشال والمتدثر مراء بلحاف الدين والشواذ الذين يتباهون بشذوذهم وصاحبات الرايات الحمر، ولم يوفقوا حتى في أن يجعلوا من هذا النزيف أو بعضه أثرا يتجسد في مصانع تشغل وتحقق اكتفاء، أو ورش لمنشآت اقتصادية تستدعي رأس المال والاستثمار، أو مؤسسات خيرية تخفف معاناة الفئات الهشة من المواطنين، أو أخرى تعنى بعملية البناء أو تهدف إلى انتشال من عوز أو فقر أو تهميش وحرمان؟
وهل تمسك العصا يوما من الوسط؟
إن أكثر السياسيين، في بلد التناقضات الكبرى، لا يتمتعون بالخطابة الحمالة، ولا الرؤى الثاقبة، ولا البصيرة النافذة، ولا الوطنية الناطقة، ولا الثبات على المبادئ وقيم الولاء للفكر والجماعة، بل إنهم قبليون حتى النخاع، شرائحيون حتى الضجر، إثنيون حتى العقد، مزاجيون بعصبية ومنتجعون بروح بداوة متأصلة، لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم حيث محاربة الآخر لإقصائه وتولي إدارة البلاد لتسيير خيراتها وإذلال رقاق مواطنيها. والسياسة عندهم هي اللغة التي يترجمون بها هذه الرغبات، والممر الذي يسلكونه إلى تجسيدها على أرض الواقع، والسور الذي يحصنون به أنفسهم من مصير الشعب المستضعف ومن هوانه عليهم.
وتحتل "السياسة"، التي هذا بعض حال منطقها، الحيز الأكبر من اهتمامات ومحتويات الساحة الإعلامية ورقية والكترونية ومسموعة ومرئية بتناول أبعد ما يكون عن المهنية وتطبعه الارتجالية والزبونية والاصطفاف فيما ينحسر محتواه الهزيل في "المدح" و"الذم" ونقل وقائع "الولائم" القبلية و"المبادرات" الجهوية والفردية و"الانتجاعية" الانتفاعية على خلفية إطار من البذخ والفساد، لجني المخصصات المرصودة لهذا النقل.
وبالطبع فإنه لا مكان في هذه الوسائل "الثورية" لمعالجات اجتماعية ملحة أو سعي إلى نشر للوعي المدني الناقص وحث على نبذ ثقافة الخمول المتكبر والدعوة إلى العمل المنتج للشعب والبلد وإلى رفع سقف الثقافة الهاجعة تحت دثار الماضوية المتجاوزة إلى حدود الإدراك بها ـ من خلال روافدها الأدبية والفنية ـ قيمة الوطن المتصالح مع ذاته فكريا وروحيا وثقافيا.
فهل ينتبه الواعون لهذا الواقع الضحل السائد فيسعوا إلى إمساك العصا من وسطها ويبذلوا أول جهد واعي يستغل الإعلام المهني بكل أوجهه ووسائط شبكة التواصل الاجتماعي المتنوعة وما يدفعها من محركات البحث الخارقة لفتح صفحة جديدة تبث الوعي الصحيح وتوجه السياسة إلى دورها الذي يبني ويوحد وينشر قيم العدالة والقانون والديمقراطية بعيدا عن الممارسات المشوبة بماضوية السيبة العصية بكل رواسبها؟