عن كل شيء يتحدث الناس ويكتبون ويتكلمون... عن الدنيا وأحوالها، عن الأيام وأرزاقها، عن السياسة ومكائدها وإخفاقاتها، عن العلاقات الإنسانية وتقلباتها، عن الصداقة وأطوارها وخياناتها، عن الدنيا بكل ما فيها: حلوها ومرها، جمالها وقبحها، خيرها وشرها.. ثم لا يملون من الانشغال بتلك الأحوال، مرتاحين لها أو مرتاعين منها!..
إنهم في كل ذلك يطلبون إشباع حاجة نهمة تتملكهم جميعا: حاجة للمعرفة وسبر أغوار المجهول، أو حاجة للراحة والهروب من ضواغط حياتهم التي لا تستقر على حال، وهم في كل ذلك يطلبون راحة البال؛ ثم لا يجدونها إلا قليلا!
وما أقرب راحة البال منهم لو علموا سرها، وعرفوا طريقها، وأخلصوا البحث عنها..
إن راحة النفس أيها المؤمنون في معرفة بارئها، واستشعار قربه ورحمته، وعظمة ملكه وجبروت سلطانه، ونفاذ قضائه وأمره..
لحظة واحدة مع الله صادقة تنسي هموم الدنيا جميعها، وتسمو بالنفس فوق جروحها وآلامها، وتطير بها إلى ملكوت الطهر والصفاء، والسعادة المنعشة والنقاء.. جربوها معي يرحمكم الله مرة، ثم مرة، ثم أخرى.. ثم انظروا في أنفسكم كيف كانت، وكيف تكون..
الله؛ قلها بصمت وأنت شهيد البال، خالي القلب والذهن إلا من التفكر في الخالق المحيط بكل شيء علما ومقدرة وحفظا.. قلها وأنت تستحضر كم ساعة من عمرك غفلت فيها عن ذكره ولم يغفل هو عنك طرفة عين.. ثم قلها وأنت تستحضر كم مرة عتبت على صديق أو زميل أو ولد أو والد أو قريب عزيز عليك؛ لأنه نسيك أو هجرك أكثر مما يليق بالمودة التي تربط بينكما!.. ثم قلها بملإ الجوارح والجوانح: "يا الله؛ كم غفلت عن ذكرك وشكرك واستحضارك، وعين رعايتك لا تغفل عن شيء من أمري ظهر أو استتر!
ثم قلها مرات ومرات "يا الله"، كم أعجبني الكرماء من خلقك؛ فما دخلت مجلسا إلا ذكرتهم فيه وأثنيت عليهم بما يستحقون.. لكن كم مرة يا ترى ذكرت من أعطاهم ما يتكرمون به، ثم قهرهم على التكرم من حيث لا يعلمون؟.. أولئك تكرموا على أفراد فشكرناهم؛ وتكرمت أنت "يا الله" على الخلق جميعا؛ فنسيناك!
كم أعجبني ذاك الرجل الذي سألته مرة عن مكان في المدينة لم أهتد إليه؛ فبعث معي ابنه وأمره أن لا يفارقني حتى يبلغني مقصدي، فما عرفت كيف أؤديه حقه من الشكر والثناء الحسن؛ لكنني نسيت أن الله هو من يسره لي وقدره، وأنه هو من بعث إلي قبله أشرف الخلق، وأطهر الخلق، وأجمل الخلق، وأرحم الخلق، وأعلم الخلق، وأحب الخلق... عليه الصلاة والسلام؛ لا ليوصلني إلى موقع في المدينة أجهله؛ ولكن ليهديني كل سبلي في الدنيا والآخرة، ثم يوصلني إلى أبواب جنات النعيم! فهل أديت شيئا من حق الشكر والثناء لهما؟ وكم مجلسا تحدثت فيه عنهما، وعن خيرهما وكرمهما ورحمتهما: الله جل جلاله، ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم!
كم أعجبني حلم ذاك الرجل القوي؛ مفتول العضلات، كامل البنية، متجانس الأعضاء، بادي الصحة وهو يعفو عن زلة رجل ضعيف خائر أساء إليه وتطاول عليه أمام الملأ؛ فظن الناس أنه سيسحقه بين أصابعه في طرفة عين، فما رد عليه، بل أحسن إليه ولم يسئ، وعفا عن حماقته وزلته!
أليس رجلا يستحق التقدير والثناء الحسن؛ خصوصا إذا علمنا أن ذلك الضعيف كان رجلا غريبا لا قريب ولا صديق ولا نصير له في ذلك البلد؟ بلى!
إذن، الله أكبر.. فماذا نقول عمن يتجاسر الناس على حرماته، ومعصية أوامره، وانتهاك حدوده من يوم خلق آدم عليه السلام إلى يوم الناس هذا؛ ثم لا يؤاخذهم بشيء من ذلك؛ بل يرحمهم، ويبسط الرزق لهم، ويصرف عنهم السوء.. وهو على هلاكهم (في لحظة واحدة) إذا يشاء قدير!!
فمن أكرم من الله، ومن أحلم من الله، ومن أعظم من الله، ومن أحق بالشكر والثناء من الله، ومن أحق بالذكر بالعشي والإبكار من الله، ومن أبعث للسرور في النفس إذا ذكر من الله؟!
"ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. نعم.. "ومن أصدق من الله قيلا".؟!
أخي في الله، لقد أثنى عليك أحد أصدقائك؛ حيث قال عنك: (والله إنه لا أحد أحب إلي من صديقي فلان؛ فما غاب عني ووجدت شخصا أو نفرا كانوا معه إلا قالوا: "لقد وجدنا صديقك فلان فحدثنا عنك كثيرا، وإنه لا يجلس في مجلس إلا ذكرك فيه، والله إنه صديق مخلص ويحبك حبا لا مراء فيه؛ فهو لا ينساك أبدا".. فعلقت على قولهم بقولك ووعدك: "وإني والله لا أنساه ولا أرد له طلبا، لقد أثبت لي صدق حبه وإخلاصه لي؛ فو الله لا أكون دونه في شيء من ذلك").
فماذا لو كان هذا الذي لا تنساه أبدا، ولا تمل ذكره في سرك وعلنك، هو من لا ينسى ولا ينام ولا تخفى عليه خافية، جل جلاله؟!
يشكر الناس الخير للناس، أفلا يشكر رب الناس الخير للناس؟ بلى فهو "الشكور العليم"، "وكان الله شاكرا عليما"، وهو القائل جل شأنه: "فاذكروني أذكركم، واشكروا لي ولا تكفرون"..
اذكر الله أخي في الله، فذكره دليل الإيمان والمحبة، وطريق للتمرن على فعل الخيرات وترك المنكرات.. اذكره سرا وجهرا وفي كل شيء، واعلم أنه لا شيء أسخف ولا أتفه من الدنيا وما فيها إذا لم تذكرك بالله، وأنه لا شيء سخيف أو تافه في هذه الدنيا إذا ذكرك بالله وعرفك عليه ونبهك لبعض صفاته الجليلة؛ فما الدنيا إلا آية دالة عليه وحجة على خلقه، حتى ما نتصوره نحن أمورا تافهة فيها ولو كانت ذبابة... وتدبر معي قوله جل أمره: "إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز"..
وقوله: "وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون..".
الله أكبر، "ذلكم الله ربكم له الملك، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير"
جعلني الله وإياك (أخي القارئ) من "الذاكرين الله كثيرا والذاكرات"، وهذه خواطر تداعت علي وأنا أتطلع إلى رحمة واسعة يشملنا الله بها في هذا الشهر الكريم، سيتوقف عنها قلمي بعد جين، على أن يستمر فيها قلبي وقلبك عسى الله أن يرحمنا أجمعين.. فلا تتوقف عن ذكر ربك بلسانك وقلبك؛ إلا أن تتفرغ يسيرا لأداء حق من حقوق نفسك أو حقوق غيرك، أو تدعو بالخير للمسلمين أحياءهم وأمواتهم، وبسعادة الدارين وما بينهما لهم ولكاتب هذه السطور، وبالرحمة التامة لوالديه إنهما كانا صالحين.. ولا أزكي على الله أحدا من العالمين..
والله يتقبل صيامنا وقيامنا جميعا، ويهدينا إلى سواء السبيل، إنه قريب مجيب.. والصلاة السلام دائما وأبدا على حبيبنا وشفيعنا وسراجنا المنير محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.