مساهمة في النقاش في إطار رئاسيات 2019
ثانيا- العدالة: إصلاح وضمان الاستقلال الحقيقي للقضاء
لقد ظل تطور وضعية العدالة في بلدنا بطيئا جدا في السنوات الأخيرة. وقد ظهرت بالفعل بعض المبادرات مثل تحسين أجور القضاة والموظفين القضائيين، وإثراء الترسانة التشريعية لتعزيز الولوج إلى العدالة بشكل أفضل، كما تم تحسين النصوص والإجراءات المتصلة بمدونة التجارة وأُجريت تحسينات على الترسانة القانونية في مجال مكافحة العبودية والتعذيب.
غير أن تجديد نظامنا القضائي لا يزال في بدايته. ولا تزال الرشوة واستغلال النفوذ أمرًا شائعًا للأسف، كما أن شروط استقلال ونزاهة القضاء لا ترقى إلى المطلوب حتى الآن.
والواقع أن هيمنة السلطة التنفيذية على القطاع ما تزال أمرا ملموسا. ويكفى دليلا على ذلك قلة الشفافية في تحويلات وترقيات ومعاقبة القضاة والضعف المشهود للعدالة الموريتانية أمام أصحاب الامتيازات والسلطة.
وإن الإهمال في تطبيق قرارات القضاء، أيا كان مرده -إن بسبب نقص الموارد، أو التدخلات أو العجز أو غياب الإرادة لدى بعض الأجهزة التنفيذية- لَهو في كل الأحوال أمر غير مقبول. كما أن كفاءة ودرجة تخصص بعض القضاة، وكذلك استقلاليتهم هي اليوم مثار تساؤل مشروع لدى المواطنين. أما مفتشية القضاء فما تزال غير مقنعة ولا فعالة، سواء على المستوى الكمي (عدد حالات التفتيش) أو من حيث النوعية (في أداء المهام).
لكل هذه الأسباب، يبدو من الضروري تنظيم "منتديات أو محافل عامة للعدالة" تجمع الخبراء وممثلي الجهاز القضائي والمجتمع المدني، من أجل التوصل إلى توافق، بعد التشخيص، بشأن الورشات ذات الأولوية لإصلاح العدالة.
على أن تُستخدم المقترحات الناتجة عن تلك المنتديات أساسا لتحسين النظام القضائي، وتعزيز استقلاله وإدراجه ضمن مسار حازم نحو إرساء دولة القانون في موريتانيا.
وكشرط أساسي سابق لتلك المنتديات العامة، يبدو لنا من المهم أن نثير الموضوعات الخمسة التالية (وجميعها يمليها الحس السليم وتعاليم ديننا الحنيف):
1- ضمان ولوج الجميع إلى العدالة، لاسيما الفئات الأكثر ضعفًا، بما يتيح حماية حقيقية لحقوق جميع المواطنين. ومن هذا المنظور، يجب تبسيط الإجراءات (الجنائية والمدنية) بهدف تحسين الكفاءة والأداء، وقبل كل شيء، التطبيق الأكثر منهجية لقرارات المحاكم.
2- تقديس استقلال ونزاهة القضاء كمبادئ أساسية. ويتطلب ذلك الأمر إرساء حماية حقيقية للقضاة في مواجهة ضغوط السلطة التنفيذية والتأكد من عدم تبعية أو إخضاع المجال القضائي من طرف السياسيين أو أي سلطة أخرى (عسكرية، مالية، عرقية/إثنية-قبلية ، إلخ...).
3- تعزيز مفتشية القضاء لجعلها جهازا موثوقا وذا مصداقية، قادرا على أن يكفل لنا سلوكا مستقيما للقضاة يتماشى مع أخلاقيات وآداب القاضي وقواعد مهنته. وللقيام بذلك، فإنه من الضروري تجسيد منظومة محاسبة قوية على أرض الواقع، لمعاقبة القضاة الذين تثبت مسؤوليتهم عن إخفاقات أو خلل وظيفي. وفي حالة ثبوت ارتكاب رشوة أو فساد، فإن العقوبة يجب أن تصل إلى الفصل.
4- إجراء إصلاحات في منظومة التكوين –
يتعين إعادة النظر فى منظومة تكوين القضاة، كي نغرس لدى القضاة الشباب أخلاقيات مهنية قوية تركز على قيم النزاهة والحياد والإنصاف، وكذلك التمسك باستقلال القاضي والتزامه التام وغير المشروط بالحق والقانون كما تمليه قيمنا وديننا. ويجب تعزيز مدونة الأخلاقيات هذه من خلال التدريب العملي الموجه بشكل خاص نحو تثمين نُسق رمزي غير قابل للانتهاك، على أن يتم التأكيد على ذلك أيضًا في إطار حملات منتظمة للتدريب والتكوين المستمر.
5- تكريس هيئة قضائية شرعية، مستقلة وذات كفاءة.
أ- من أجل تكريس استقلال القضاء، فإن اقتراحا بإجراء إصلاح عميق سوف يتمثل في تحويل مناصب رؤساء المحاكم القضائية المهمة إلى مأموريات انتخابية (المجلس الدستوري، المحكمة العليا، محاكم الاستئناف، محكمة الحسابات، وكذلك وكلاء الجمهورية.
ب- ولكي يتأهل للترشح لأي من هذه المناصب، يجب أن يتمتع القاضي بمزايا حقيقية (مهارات وخبرة مؤكدة، والنزاهة المعترف بها والالتزام الثابت بمبادئ الاستقلال والحياد، والإحساس القوي بالأخلاقيات المهنية). ويمكن أن تتكون الهيئة الناخبة من "ناخبين كبار"، يضمون ممثلين عن مكونات المجتمع: المنتخبين المحليين، ممثلين عن المجتمع المدني، نقابات عمالية وقضاة.
ثالثا- الشباب: "وضع برنامج ناجع ومستدام لإدماج الشباب"
إن ما يقرب من 60 % من سكان موريتانيا، تقل أعمارهم الآن عن 20 عامًا، ووفقًا لأرقام 2014، يُمثل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 عامًا زهاء 40 % من السكان.
إن هذه الخاصية الديموغرافية تعتبر فعلا مزية أساسية وورقة رابحة لبلادنا ولإمكانيات نموها في المستقبل. غير أن هذه الخاصية تشكل أيضًا تحديًا حقيقيًا، نظرا لشدة و كثرة الصعوبات التي يجب التغلب عليها من توالد للفروق واللامساواة، مع إشكالية دمج الشباب المتضررين بشدة من البطالة الجماعية. وبالتالي، كي نستفيد من المزايا السكانية المتوفرة لدينا، فإنه يتعين علينا تصميم حلول ملائمة لتلك المشكلات.
ثم إنه، ورغم اتفاق العديد من الخبراء على أن مسألة الحد من الفقر و مشكلة تشغيل الشباب مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا في موريتانيا، فإن الفعل السياسي في هذا المجال لا يزال قاصرا. ومما يضاعف أضرار هذا الجمود، أنه يولد إقصاء اجتماعيًا متفاقمًا ويزيد من معاناة الشباب وإحباطه.
غير أنه بدون سياسة جسورة وسباقة لإعادة توزيع الثروة والمكافحة الفعالة لإقصاء الشباب، تعمل على ضمان نفاذ الجميع إلى نفس الفرص، فسيظل من المتعذر وضع حد لتوارث الفقر بين الأجيال المتعاقبة وسيصعُب ترسيخ الاندماج الاجتماعي في موريتانيا.
صحيح أنه تم إنشاء "مجلس أعلى للشباب"، غير أنه ينبغي إعادة النظر في مهامه وتحديد دوره: إذْ يجب استخدام هذه المؤسسة بشكل أفضل لفهم تطلعات الشباب وأخذها بعين الاعتبار وبالتالي تمكينهم من المساهمة الفاعلة في عملية البناء الوطني (بدلاً من استخدام هذه الهيئة كأداة سياسية بهدف احتواء الحركات الشبابية ...(
يتمحور اقتراحنا ب"وضع برنامج فعال ومستدام لإدماج الشباب"، حول ثلاث أولويات رئيسية:
1- إنشاء "مخزونات" أو مصادر مستدامة للتشغيل، وتسهيل ولوج الشباب إلى وظائف جديدة إنتاجية وجيدة، على أن نهدف، في مدى منظور، إلى توفير 10 آلاف فرصة عمل جديدة كل عام. ولهذا، يجب استغلال جميع المخزونات المتاحة:
أ- في القطاع العام: إطلاق برنامج جريئ يعتمد على سياسة تحفيز الاقتصاد عبر "الانتعاش بأشغال البنية التحتية" (منشآت الصحة، التعليم، الطرق، المنشئات والمرافق الشاطئية وغيرها من الأشغال العامة).
ب- تأطير ومرافقة الاستثمارات في القطاعات الواعدة (المحروقات، المناجم، صيد الأسماك، الزراعة ، إلخ) من خلال تشجيع "محتوى وطني"[1] حقيقي يُسهم في التوطين والتحكم التدريجي في سلسلة القيمة الاقتصادية لكل من هذه القطاعات.
ج- وضع سلسلة من التدابير والإجراءات لتشجيع الشركات الخاصة على التوظيف وتنمية أعمالها (كما هو مُشار إليه في القسم الاقتصادي)
2- استحداث خدمة مدنية إلزامية لفئة عمرية (من 22 إلى 28 عامًا، تركز في البداية على التعليم، وتمتد في مرحلة لاحقة لتشمل قطاعات أخرى: الحماية المدنية والإسعافات الأولية والدفاع والأمن والصحة /الوقاية، ودعم الزراعة / الثروة الحيوانية/ الصيد البحري، وما إلى ذلك).
3- إنشاء "دخل عام مقابل النشاط" للشباب (24-35 سنة) الذين هم فى مرحلة إطلاق مشروع أو إقامة نشاط مهني، ما يضمن لهم دخلا مشجعا يساعدهم على التفرغ لمشروعهم و إنجاح عملهم: ويمكن هنا طرح فكرة منصة جديدة تحت مسمى"عدل شي"(منصة يتم توجيهها للشباب، تمكن كل شاب من إيجاد موضع لنفسه من أجل الحصول على التكوين و"تحقيق شيء ما"). على أن تتيح على سبيل المثال:
أ- التكوين على الحرف اليدوية وإنشاء ورش من مختلف الأنواع مدعومة من قبل مدربين (مكونين) ذوي خبرة (موريتانيين وأجانب) فى مجالات: النجارة، اللحامة وصناعة الأدوات المعدنية/النحاسية، وصيانة أوإصلاح الأجهزة -كهروميكانيكية وإلكترونية-، وتجميع/تركيب الأجهزة الإلكترونية ...
ب- تعزيز إمكانات خريجينا الشباب، ومرافقتهم لاقتحام مجال "اقتصاديات المعرفة" (knowledge economy)
- تشجيع المبادرات من كافة الأشكال لإنشاء ودعم الشركات الناشئة، وخاصة في مجالات التكنولوجيا الجديدة؛ تشجيع واستغلال مهارات الشباب من خلال إنشاء أقطاب معلوماتية (تطوير حوسبة) منخفضة التكلفة، ليتأهل بلدنا لاستفادة من فرص "نقل العمليات إلى الخارج" (offshoring).
- إنشاء محتوى تربوي-ثقافي: على سبيل المثال، لدينا وجود قوي للشعر والثقافة الشفهية في موريتانيا. فلنُشرك الشباب، لاسيما أولئك الذين لديهم تكوين أدبي أو طُموح في هذا المجال، من أجل تطوير مواهبهم الفنية و تثمين إنتاجهم الإبداعي، سواء كان مسرحًا أو كتابة إبداعية أو سيناريوهات سينمائية أو محتوى شعريا، إلخ... وإن إنشاء هيئة قادرة على تأطير و تقوية هذا الإنتاج الفني الوطني، من شأنه أن يمكّن موريتانيا من أخذ "حصتها" من سوق القطاع الثقافي والترفيهي، وبالتالي استئناف إشعاعها في شبه-المنطقة وخارجها.
[1] ونعنى بالمحتوى الوطني : كافة أشكال القيمة المضافة التي يستفيدها البلد من استغلال موارده الطبيعية، عن طريق جهود التكوين وبناء القدرات وإنشاء الشركات الفاعلة فى القطاع برأسمال وأيد وطنية بما يصب في توطين الوظائف والأنشطة و"مرتنة" أكبر قدر منها بشكل تدريجي، على نحو يتحقق به اندماج القطاعات الاستخراجية في الاقتصاد وتنميته بشكل مستدام.