أي مصير ينتظر السنوسي: معتقل الموريتانيين، وصيدهم الثمين؟؟/ محفوظ ولد الحنفي

محفوظ ولد الحنفي

"موريتانيا توافق على تسليم السنوسي"، "موريتانيا ترفض تسليم السنوسي".. ذانك عنوانان باتا يتصدران أخبار وتقارير و"تمنيات" مختلف المواقع والصحف الموريتانية والعربية؛ منذ تسارعت وتيرة تحركات حكومة ليبيا الهادفة لتسلم الرجل اللغز والكنز المثير: عبد الله السنوسي المعتقل في موريتانيا..

ربما لم تفكر السلطات الموريتانية قبل دخول السنوسي إلى أراضيها أنها ستجد نفسها فجأة محط أنظار العالم ومختلف قواه الفاعلة وهي تمسك بيديها أكبر وأخطر مطلوب دولي وإقليمي، يصعب تصور حجم الأثمان المغرية التي سيكون الكثيرون مستعدين لدفعها إلى سلطات نواكشوط لقاء تسلم هذا الرجل المثير للفضول وللجدل أيضا..

ولا شك أن سلطات نواكشوط فرحت كثيرا بمجرد تثبتها السريع من أن الشخص الذي أوقفه أمنها بمطار العاصمة هو ذاته عبد الله السنوسي بشحمه ولحمه.. كما لا شك أن فرحتها لم تدم طويلا؛ حين اكتشفت أن "علبة ليبيا السوداء" لم تكن مجرد كنز فقط، ولكنها كانت (أكثر من ذلك، وبشكل أكثر وضوحا) "ورطة جدية" صنعها حظ كان عاثرا ومربكا (ربما) أكثر مما كان سعيدا أو مفرحا..

إن "عبد الله السنوسي" هو بحق "مشكلة" وطنية وعربية ودولية معقدة؛ تتشابك في نسج خيوطها المتداخلة عوامل سياسية وقانونية واقتصادية ودبلوماسية وإنسانية؛ وحتى نفسية!!..

السنوسي متهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والذين يتهمونه متهمون هم الآخرون بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.. ومن عمق هذه المفارقة الغريبة نبتت كل تعقيدات قضية هذا الرجل الفريد الذي يواجه مصيرا غامضا في وطن عربي تسكن عقول مواطنيه ظاهرتان طاغيتان:

- أما الأولى؛ فهي سرعة الانقلاب على كل نظام حكم يسقط عن كاهلها أو يرحل؛ وسرعة تشفيها وانتقامها منه ومن كل من كانت له صلة بعيدة وموهومة به؛ أحرى من كانت صلته به لصيقة وجلية ومصيرية..

- وأما الثانية؛ فهي التعاطف التلقائي الصادق والجياش مع كل مغلوب حتى لو كان مجرما بالسجية" وقاتلا ب"الفطرة"؛ في تجسيد غير مفتعل لقيمة حضارية وإنسانية توارثوها كابرا عن كابر، ولخصوها في حكمتهم الباقية: "ارحموا عزيز قوم ذل"!..

وقد لا يكون الضحايا المباشرين للطغاة والمجرمين معنيين بهذه الظاهرة الأخيرة؛ إذ "لا يعرف الظلم إلا من عاناه"؛ وحيث إن للضحايا معاناة وآلاما وصدمات لا تزول ما داموا يرون الجناة أحرارا آمنين من كل عقاب أو مساءلة، وإنهم في ذلك لمعذورون وحقيقون بالنصرة والمؤازرة..

لكن؛ ليس كل اتهام يرتب حقا أو يدين بريئا.. بل لا يترتب الحق إلا على دليله، وكذلك الإدانة..

وعلى هذه القاعدة تنهض تعقيدات أخرى لتسم "مشكلة صندوق القذافي الأسود"؛ فمن يمتلك حق إدانة السنوسي، ومن يمتلك حق تبرئته؟؟..

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم!!

إن خصوم الرجل جميعا أدانوه قبل أن يحاكموه؛ بل وحتى قبل أن يعتقلوه أو يستجوبوه!! تماما كما أدانوا قائده قبل أن يعتقلوه، وأعدموه قبل أن يستجوبوه!!

صحيح أن قادة ليبيا الجدد "تبرئوا" من دم القذافي وأعلنوا أنهم سيحاكمون قتلته؛ لكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا؛ ربما لأنهم تذكروا أن الذين قتلوا العقيد معمر القذافي لم يكن لهم من ذنب أو جريرة سوى نفس جريرة الطمع التي جعلت قادتهم يرهنون أنفسهم للحلف الأطلسي، وجعلتهم هم الآخرين يسارعون بسحل العقيد وقتله طمعا في المكافئة المغرية التي أعلنها مصطفى عبد الجليل جزاء لمن يأتيه برأس القذافي حيا أو ميتا!!

أو ربما لم تتم محاكمة قتلة القذافي (ولن تتم) بناء على استنتاج بديهي بأن محاكمتهم تقتضي بالأولى محاكمة الذين حرضوا على قتل الرجل، ومثلوا بجثته واحتجزوها أياما كي يحولوها إلى "تحفة" في "متحف" رهيب؛ فيتزاحم السياح للتفرج عليها وهي لحم يتعفن؛ قبل أن يتم دفنها بعيدا في مجاهل الصحراء كما لو كانت نفاية سامة، أو فضلات آدمية مؤذية!!

ونحن لا نستطيع نفي الاتهامات الموجهة للسنوسي ولا إثباتها.. لكنه أيضا ليس في مقدورنا تجاهل حقيقة بينة؛ وهي أن أهم أسباب حرص خصوم السنوسي على تسلمه هو ليس فقط محاكمته على ما ينسب إليه من "جرائم" مزعومة؛ وإنما أيضا -وبالأساس-  للحصول على أسرار ومعلومات مرتبطة بالنظام السابق؛ خصوصا ما يتعلق منها بمليارات الدولارات التي يعتقد أن القذافي قام بإخفائها قبل اختفاء نظامه..

غير أن الجميع يعلم جيدا أنه لا أحد أدرى بخفايا وأسرار النظام المختفي من القذافي نفسه (يرحمه الله)، ولقد وقع القذافي أسيرا بيد "ثوار" ليبيا وهو حي يرزق، لكن فعل الانتقام وسهام الحقد الأعمى كانت أسبق من كل السهام؛ لذلك لم يلتفت هؤلاء "الثوار" لحظة للوفاء بواجبهم الإسلامي، والإنساني، والأخلاقي، والحضاري الذي يلزمهم أن يسارعوا بمعالجة الشيخ الأسير الذي ينزف دما؛ بل عاملوه كما لو كانوا منزعجين من عجز جراحه عن إنهاء حياته؛ فقرروا هم أن يتولوا مسئولية الإجهاز عليه نيابة عن تلك الجراح!!

وهذه هي أخلاق من يتطوع قادتهم كل يوم بتقديم التعهدات لضمان محاكمة السنوسي محاكمة عادلة، ومعاملته معاملة إنسانية؛ دون أن يتساءلوا عن قيمة أي محاكمة استبقها القائمون عليها بوصف متهمهم بأوصاف هي أقرب للحكم النهائي الصادر في ختام محاكمة متكاملة، وذلك حين وصفوا السنوسي (بمناسبة وبدون مناسبة) ب"المجرم" و"اللص"، و"الطاغية"، و"السفاح"، و"مجرم الحرب"... فما قيمة المحاكمة بعد كل هذا؟!...

إن خلاصة المشكل القائم بين السنوسي وقادة ليبيا الجدد (حتى لا أقول حكامها الذين لا نعرفهم على وجه اليقين) هو أنه شكل من أشكال الصراع المستمر بين نظامين:

- نظام القذافي الذي حكم ليبيا أكثر من أربعين سنة عرفنا فيها كل شيء تقريبا عن ذلك النظام بإنجازاته وإخفاقاته، انتصاراته وانكساراته، أخطائه وإصاباته، إيجابياته وسلبياته....

- ونظام جديد يتشكل لم تتضح بعد ملامحه النهائية، ولم يعرف له لون ولا طعم ولا رائحة؛ إلا أن يكون لون الدم، وطعم الانتقام، ورائحة البارود والدخان...

وليست موريتانيا طرفا في هذا الصراع ولا معنية به؛ فلا النظام المنهار نظامها؛ ولا النظام الآخذ في التشكل نظامها؛ فلا يكون في شيء من ذلك سبب يلزمها بتسليم السنوسي أو بالامتناع عن تسليمه؛ إلا أن يكون سببا مرتبطا بالقانون الوطني أو القانون الدولي، وليس لسبب مرتبط بالمصالح المتبادلة كما قال عبد الرحمن الكيب؛ لأنه لم يعد في هذا الوجود من يجهل أن معظم المصالح المتبادلة بين دول هذا العصر إنما بنيت على حطام مصالح المستضعفين والمغلوبين والعاجزين.

على كل حال؛ ليس الليبيون وحدهم من يطالب بتسلم السنوسي؛ فقد طالبت بتسلمه والتحقيق معه قوى عربية وغربية عديدة لعل أبرزها ما يسمى "محكمة الجنايات الدولية"، والسلطات الفرنسية..

ولا يتميز وضع السنوسي كثيرا إزاء المطالب الغربية عن وضعه في مواجهة المطالب الليبية؛ حيث إنه يواجه تهما هي مجرد جزء طفيف من مجموع التهم الابتزازية التي واجهها النظام الليبي قبل سقوطه الذي سبقه سقوط جميع تلك التهم حين عصفت بها صفقات بلير وساركوزي بعد أن قام العقيد بحشو فميهما بدولارات نفط ليبيا المسيل للعاب الجشعين من قادة الرأسمالية الغربية التي لا تشبع.

ثم إن تهم الغرب للسنوسي لا تساوي معشار التهم الابتزازية التي واجهها شهيد الحج الأكبر القائد الفذ صدام حسين (يرحمه الله) والتي قادت لتدمير إحدى أعظم الحضارات العلمية المعاصرة؛ واغتيال بانيها شنقا في واحد من أعظم أيام الله وأقدسها وأشدها حرمة؛ ليكتشف أغبياء العالم أخيرا أنه لم يكن للغرب من تهمة للشهيد صدام حسين سوى تهمة رفض الخضوع له، والوقوف عند رغباته وحماية مصالح دوله.. ولا يهم بعد ذلك أن يقيم هذا الزعيم وزنا لإرادة شعبه أو لا يقيمه لها، ولا أن يحكمه حكما ديموقراطيا أو حكما مستبدا ومتسلطا..

وليست موريتانيا طرفا في صراع المصالح والصفقات المشبوهة بين الغرب وأي نظام آخر؛ فلا يكون في كل هذا سبب يلزمها بتسليم السنوسي أو بالامتناع عن تسليمه..

مثلنا وسيادتنا على المحك

ليس لموريتانيا بملف السنوسي إلا علاقة واحدة هي علاقتنا بهذا الرجل بصفته بشرا وإنسانا، ثم علاقتنا بفكرة ومبدأ السيادة الكاملة في بلدنا وعلى أرضنا بما فيها ومن فيها.. وفي حدود هذه العلاقة يجب على السلطات الموريتانية أن ترسم خارطة طريق لتعاملها مع مطالب تسليم السنوسي؛ فتعلم:

-أولا، أن موريتانيا جزء من أرض الله الواسعة التي جعل الله سعتها رحمة للعباد، ومهجرا للخائفين، وملاذا للمغلوبين.. وأن السنوسي دخلها طلبا للأمان؛ وقد وجب علينا الحرص على جعل بلادنا دار أمن؛ كما حرصنا على جعلها دارا آمنة.

- وثانيا؛ أن الله كرم جميع البشر وشرفهم؛ قال تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا".. وليس السنوسي إلا واحدا من هؤلاء البشر المكرمين كان ركنا من أركان نظام أسقطه الغرب وحلفاؤه، وقد خدمه السنوسي كما خدمه أغلب الليبيين مقتنعين به، أو خائفين منه، أو محتارين في أمره.. ولقد كان المستشار مصطفى عبد الجليل أحد أبرز خدام ذاك النظام؛ حيث كان ضامن العدل وفق نظريته وعقيدته وفلسفته!!...

- وثالثا؛ أن موريتانيا دولة ذات سيادة، وأن حكومتها مسئولة عن حماية تلك السيادة وتجسيدها في كامل مواقفها وتصرفاتها، وأنها هي صاحبة الحق الشرعي في تقدير الموقف الأصوب لاتخاذه بشأن السنوسي؛ فإن رأت ذلك الموقف في تسليمه لليبيين فلا شيء يمنعها من ذلك إلا أن تقدر أنها بذلك تعرض إنسانا لجأ إليها للظلم وسوء المعاملة، وإن رأت رفض تسليمه فذلك حقها الذي لا يستطيع أحد إنكاره عليها ما لم يتأكد بالدليل القاطع أنها توفر بذلك حماية لمن قام الدليل البين على إجرامه، وتحرم بالتالي ضحاياه من حقهم المشروع في مقاضاته.

والذي لن يكون مقبولا من هذه الحكومة (تحت أي ظرف ووفق أي مبرر) هو أن تجعل من هذا الإنسان بضاعة تدور عليها المساومات، أو سلعة تحكم مصيرها المضاربات... لأنها بذلك تضيع كل شيء: القيم، والسيادة، والكرامة، واستقلالية القرار... ولا نريد..

8. يوليو 2012 - 8:23

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا