غالبا ما تتسم المعارك الفاصلة ـ أو الفارقة ـ في التاريخ بثلاث خصائص أساسية:
(1) أن يكون فارق القوة المادية بين طرفي المعركة شاسعا؛
(2) أن يستهوي الطرف الأقوى شعوره بالقوة إلى بدء المعركة ومن ثمة إلى سوء تقدير النتائج؛
(3) أن يترتب على كسب المعركة من قبل الطرف الأضعف آثار هائلة!
ولترتيب الأفكار وتثبيت الذهن، ربما يكون من المناسب أن نقدم هنا بعض الأمثلة.
من ضمن هذه المعارك مثلا، معركة الفرقان ـ معركة بدر ـ حيث أدى بقريش استكبارها، على الرغم من تأمينها لعيرها، إلى الإقدام على محاولة استئصال الثلة المسلمة والميل عليها ميلة واحدة. ومن المعلوم أن الطرف المستضعف لم يكن تهيأ أصلا لقتال وإنما لإستنفال غير ذات الشوكة .. وشاءت الأقدار ما لم يدر في الحسبان: أن تكون معركة بدر بداية القضاء على أئمة الكفر وجهابذة الوثنية في جزيرة العرب..
ومن تلك المعارك أيضا، وإن كانت أقل قداسة بالنسبة لنا، معركة "ديين بين فو" (1954) بين قوى الإستعمار الفرنسي المدعوم من الولايات المتحدة من جهة، والثوار الفيتناميين من جهة أخرى والتي انتهت مباشرة بجلاء فرنسا وتسفيرها نهائيا إلى اليوم من منطقة الهند الصينية..
وفي تاريخنا المعاصر، ما كان يظن ابريجنيف وهو يحتل كابول (1979) إلا أنه يقوم بإجراء عادي بضم أفغانستان إلى أخواتها من جمهوريات آسيا الوسطى في الاتحاد السوفيتي.. ولقد كانت معركة "واد البنشير" (1984) بين المجاهدين الأفغان والجيش الأحمر فاصلة في النزاع. فما إن أنقضت حتى قرر كوربا تشيف الانسحاب تماما من تلك الربوع. ومن نتائج ذلك، يرى بعض الدارسين والمفكرين أن هذا الفشل في أفغانستان هو من ضمن الأسباب الغير مباشرة لنهاية نظام الاتحاد السوفيتي. فالأنظمة الشمولية التوسعية إذا فشلت في التوسع تبدأ رحلة الانحسار ثم الاضمحلال فالتلاشي..
على ضوء هذا الموجز حول المعارك الفاصلة، تعالوا نأت إلى الحالة الليبية. فلا بد أن نلاحظ: (1) أن هناك طرفا قويا، طاغي القوة وهو اللواء المتقاعد حفتر ويدعمه المحور العالمي المضاد للثورات العربية. يتزعم هذا المحور إسرائيل نتانياهو ومن يؤيدها تأييدا غير مشروط وهم أمريكا ترمب وفرنسا مكرون وروسيا بوتين والهارعون إليها والمستنجدون بها من حكام العرب وهم أساسا المحمدان والسيسي.. (2) أن حجم ما جمع اللواء حفتر من المال والعتاد والتحريض فضلا عن ما يساوره أصلا من الشعور بالعظمة وشغف التفرد بالحكم هو ما استهواه في مباغتة أهل طرابلس بالحرب وهم في خضم زيارة الأمين العام للأمم المتحدة وفي أجواء التعبئة للتصالح الوطني، مما يشي، في توقيته وتزامنه، بقدرة اللواء على الغدر بإخوانه في المواطنة والعقيدة وجرأته على السخرية والتهكم على ما بات يعرف بالمجتمع الدولي؛ (3) أن الطرف الأضعف هو حكومة الوفاق ومن يساندها من ثوار المنطقة الغربية من ليبيا. وهو الطرف المجني عليه والذي لما تندمل جراحاته بعد ثورة مكلفة ويتعاف من تعقيدات بناء الدولة المدنية الليبية!
أما بخصوص النتائج المحتملة، ففي الحالة الليبية، إما أن تكون للعرب ثورة أو لا تكون!
فالمحور العربي المضاد للثورات العربية، فباحتلاله لهذه الدولة، وإن بوكالة اللواء المتقاعد، فإنه يحقق ثلاثة أهداف أساسية: (1) الحصول على موقع جيوإستراتيجي مركزي في المغرب العربي، شاسع الاتساع، رابط بين بلاد جنوب الصحراء والبحر الأبيض المتوسط ؛ (2) التمكن بما سيقع بين أيديهم من ثروة ليبيا المعتبرة من تمويل للثورة المضادة، خاصة بعد ما بددوا من إنفاق "الحسرة" في التآمر على الثورتين السورية واليمنية وتكاليف إرساء الدكتاتورية العسكرية بمصر. وقد تزايدت الحاجة إلى التمويل بعد الفشل في الاستيلاء على الكنز القطري عبر الحصار وبعد الرجوع عن التغريم خارج القانون لأولي الثروة من العرب ممن يقع في فخ الأسر؛ (3) تحصين الحدود الغربية المصرية من أي مد ثوري قادم من المغرب العربي.
من هنا يأتي سياق الأبعاد والدلالات للمعركة الدائرة بطرابلس. وعليه فإن الثوار الليبيين وحكومة الوفاق أضحوا اليوم في حال شبيه بما حصل لجند طارق بن زياد: فالعدو من خلفهم والبحر من أمامهم! ولم يعد لهم من خيار إلا إحدى الحسنين، تشفع لهم في ذلك أربعة دوافع جوهرية:
- قداسة كفاحهم ذودا عن النفس والأرض ودفاعا عن الدولة المنشودة، دولة القسط
والمواطنة والعيش الكريم، دولة تصان فيها الحريات الأساسية ويتداول فيها الحكم بالمشورة.. وفي هذا المضمار جاء موقف رابطة اتحاد علماء المسلمين في وقته، فقد حدد بوضوح الطرف الجاني، القادم من أقصى البلاد سفكا للدماء وإفسادا في الأرض بعد إصلاح وتخريبا بعد إعمار. وعادة في المعارك والميادين، يكون لعادلة القضايا وصدقيتها أثر بالغ في ارتفاع المعنويات وشحن الهمم لدى الطرف المبغي عليه.. والعكس بالعكس ..
- الخوف من العودة إلى مربع الصفر. فقد ضحى الليبيون بالغالي والنفيس من أجل الإطاحة بدكتاتورية عسكرية عاتية، كان يخشاها قشاعم ملوك العرب ويخطب ودها زعماء إفريقيا، فكيف بهم في دكتاتورية عسكرية جديدة لقيطة، تدار من الخارج كما يتحكم في الآلي عن بعد! سيكون ذلك بمثابة الردة الحضارية والسخط على أرواح شهداء الثورة والإهدار لكل المكتسبات!
- تلاحمهم وتعاضدهم صبرا على الحال وتحقيقا للمآل، فقد راهن عدوهم على انقسامهم وتقسيمهم بشتى صنوف الرشا وإغرائهم بالمال الفاسد! بل أسس اعتمادا على ذلك لوكلائه بأن ضحى واحدة من القتال تكفيه لشرب الشاي بأريحية في قلب مقاهي طرابلس! ولكن تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن! وقد علم الثوار أن وحدة المصير تعني صلابة الصف وترتيب الأولويات حسب طبيعة التحديات! فباحتلال طرابلس لا وجود للزنتان ولا لمصرات ولا لسرت وغير ذلك من القلاع والمعاقل!
- الدعم الواسع الذي تحظى به القضية الليبية إن على مستوى الشعوب أو الحكومات. فبدءا من المغرب الأقصى ومرورا بالجزائر وانتهاء بتونس، قل ما نجد تناغما في المواقف مثل الذي نشهده اليوم تجاه الوضع في ليبيا. ومن غير المعقول في هذا الحيز الجغرافي المتسع المتصل المتحضر، المتأثر بعدل الشريعة وعقلانية الغرب، أن يغلب نهج العنف والقوة سبيل الحوار والتحاكم إلى العقل!
ومهما يكن من مآلات الصراع، فإن معركة طرابلس ستكون فارقة بشرط انتصار الثوار الليبيين على عدوهم ثم على أنفسهم. وبذلك ينحسر المحور العربي المضاد للثورات نهائيا. فمن جنوب البحر الأحمر، توجد الثورة اليمنية ومن غربه جاءت الثورة السودانية. ومن جهة غرب مصر، هناك المرابطون الرابضون الليبيون، أشبال أسد الصحراء، الشيخ عمر المختار!