يدعم الاقتصاد كل شيء تقريباً في السياسة، حيث ينتخب السياسيون من خلال وعودهم بالرخاء و يعاد انتخابهم بتحقيقه ، ويعتبر من القضايا الرئيسية التي يتوجب على أي حملة انتخابية ناجحة التركيز عليها و يُعد توفير فرص العمل هو المتغير الاقتصادي الأكثر أهمية على الصعيد السياسي على الأغلب ذالك أن تخفيض الضرائب و التشغيل هما المطلبين الشعبيين الأبرزين لغالبية مواطني الدول الديمقراطية في العالم و بالتالي فأن جعلها أولوية البرنامج الانتخابي اصبح شرطا لاغني عنها لنجاح أي مرشح للانتخابات الرئاسية .
فعلي سبيل المثال انتخب الاميريكون ترامب علي اساس وعد بخلق 25 مليون وظيفة بعد ما سبقه كلينتون ب 23 مليون وظيفة ، و أسس ماكرون في فرنسا برنامجه الانتخابي علي مشروع نظام شامل لضمان البطالة تموله الضرائب . و في السنغال تعهد ماكي صال بتوفير مليون فرصة عمل أذا أعيد إنتخابه .
لكن في موريتانيا و رغم استفحال الازمة يغيب الحديث عن التعهدات الاقتصادية في ظل غياب المطالب الشعبية التي لا تتعدي في الغالب مطالب شخصية بتعيينات مقربين و في احسن الاحوال مطالب بتوفير حنفيات ريفية او تعبيد طرق ثانوية .
كارثة البطالة في موريتانيا
هناك اضطراب حقيقي في بيانات البطالة التي لا يوجد لها غير مصدر وحيد وهو الاحصائيات الرسمية و التي تشير الي ان معدل البطالة الكلي 10% - وأعلى من ذلك بين الشباب والنساء – ولكن حين ننظر في التفاصيل نجد أن هذا المعدل يخفي وراءه حقيقة مفادها أن 56% من السكان في سن العمل لا يسعون للبحث النشط عن فرص عمل ومن ثم لا يحسبون ضمن العاطلين.
حيث ورد في التقرير النهائي للتعداد العام للسكان والمساكن بموريتانيا 2013 أنه يوجد داخل الفئات النشطة من سن 14 الى 64 سنة نسبة 56 بالمائة لا يعملون أولا يريدون العمل .
بالنسبة للعاملين فبحسب التقرير ، هناك نسبة تكاد تصل إلى 9 من بين كل 10 أفراد أي 90% يعملون في القطاع غير الرسمي – وأكثرهم في الزراعة. ويعمل الكثيرون ممن تعتبرهم التقارير الحكومية غير عاطلين في القطاع غير الرسمي دون أجر شهري ويفتقرون إلى الأمن الوظيفي ولا تتوافر فيهم الشروط المطلوبة للحصول على معاش تقاعدي. وفي المقابل يهيمن القطاع العام على أنشطة القطاع الرسمي كما يتيح درجة عالية من الأمن الوظيفي. أما شركات القطاع الخاص فيعمل فيها أقل من 5% من مجموع العاملين في القطاع الرسمي.
اذا نستنتج ان نسبة الذين يتوفرون علي عمل رسمي مستقر لا تتجاوز 10% من الفئات النشطة منها حوالي 1% في القطاع الخاص .
و تظهر تجليات البطالة في موريتانيا داخل كل أسرة حيث تتوفر كل عائلة بين أفرادها علي نسبة لا يستهان بها من العاطلين كما تبدو جلية للعيان من خلال طوابير الشباب المزدحمة امام المؤسسات العمومية و الخصوصية فور اعلانها لأي اكتتاب وقد سنحت لي شخصيا للأسف خلال احدي وظائفي السابقة كمدير للمصادر البشرية لأحدي الشركات الاجنبية العاملة في موريتانيا مقابلة عشرات الشباب الجامعيين من مختلف الفئات يتقدمون بطلبات للحصول علي وظيفة حارس !! .
أسباب الكارثة
لقد تخلت الدولة منتصف السبعينات عن الالتزام بتعيين خريجي النظام التعليمي ، وعجزت عن خلق البيئة الاقتصادية المناسبة لخلق الوظائف الكافية في ظل تضاعف اعداد الوافدين الي المدن بفعل موجات الجفاف المتتالية ، ولقد شكل ظهور أسواق عمل عربية وأجنبية بفعل العولمة متنفسا هاما مند التسعينات وخصوصا دول الخليج و اوروبا .
لكن سوق العمل واجه صدمات قوية في العقدين الاخيرين أدت إلى انفجار أزمة البطالة في موريتانيا اهمها:
- تطببق برنامج ألإصلاح الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي وهو بالأساس برنامجا انكماشيا يستهدف السيطرة على معدل التضخم المرتفع وعلى العجز في الموازين الداخلية و الخارجية، مع القبول بمعدل نمو منخفض ومعدل بطالة مرتفع نسبيا ، ومع استمرار هذا البرنامج والبدء في برنامج الخصخصة أي بيع القطاع العام للقطاع الخاص المحلي والأجنبي وإحالة جانب كبير من العاملين فيه إلى المعاش المبكر وهم في سن العمل مما حوَّلهم إلى عاطلين، تزايدت معدلات البطالة
- زاد من حدة الازمة هشاشة القطاع الخاص الوطني وانحصاره أساسا في مجالي التجارة و الخدمات و تركز النشاط الحكومي في تطوير البني التحتية و تمويل الإنفاق الجارٍي بدلا من بناء أصول إنتاجية جديدة، مما أسهم في إضعاف فعالية الاقتصاد الموريتاني في خلق فرص العمل، وأدى إلى تفاحل كارثة البطالة..
- هذا بالإضافة الي المتغيرات الديمغرافية حيث يتزداد بشكل متسارع اعداد البالغين الشباب بشكل متضاعف جدا مما يعني ظهور عاطلين جدد في ظل العجز المستمر عن توفير الفرص
- و قد شكل انهيار أسعار المعادن الدولية الاخير ضربة مولمة جدا حيث ترتب عليها سياسات حكومية اكثر حذرا و صرامة ادت الي التصفية العاجلة لبعض الشركات العمومية ، كما تراجعت الشركات المعدنية المتعددة الجنسيات (تازيازت و اكستراتا مثلا ) عن استثماراتها و قلصت من اعداد عمالها بعد ان كانت تعد بالآلاف الوظائف و اختفت عشرات الانشطة الصغيرة و المتوسطة تحت وطأة الضغط الضريبي المتزايد هذا بالإضافة الي انهيار اسواق العمل الاجنبية و العربية بفعل تراجع اسعار النفط وسياسات الهجرة الجديدة في اوروبا و أمريكا حيث تزايدت أعدد العائدين من الامارات و انغولا و اسبانيا و الولايات المتحدة...الخ ليشكلوا ضغطا اضافيا علي سوق العمل المحلية المنهار .
ورغم ان الحكومة اكتتبت مئات الشباب في الادارة العمومية و التعليم بالإضافة الي مختلف اسلاك الامن و الجيش خلال السنوات الماضية الي ان تأثيرها يبقي محدودا جدا أمام حجم تزايد العاطلين المرعب خلال نفس الفترة نتيجة الاسباب السابقة الذكر .
حماية الوظائف و خلق 200 ألف فرصة جديدة ..كأولوية انتخابية
بالنظر الي ما سبق من الواضح ان البطالة هي القنبلة الصامتة التي تهدد المجتمع الموريتاني في العشرية القادمة و بالتالي يجب ان تكون اولويات رئيس موريتانيا في المرحلة القادمة حماية الوظائف الحالية و خلق فرص جديدة .
يشير تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي عام 2015 منشور علي موقع الصندوق ان السلطات الموريتانية تعترف بالحاجة الماسة الي خلق وظائف علي سبيل الاستعجال و يقدر الصندوق ان الاقتصاد يجب أن يخلق 200 ألف فرصة عمل في الفترة ما بين العام 2014 و 2020 و ذالك من اجل استيعاب القادمين الجدد الي سوق العمل و لكن السؤال الذي يبقي مطروحا بإلحاح هو كيف ؟
كيف ؟... مقترحات
- أولا : علي المستوي التنظيمي
بما ان حل مشكل البطالة يتطلب إحداث تغيير جوهري وكامل أحيانا في طبيعة النظام الاقتصادي–الاجتماعي فإننا نقترح الغاء وكالة تشغيل الشباب و الهيئات المماثلة و تسيير الملف من طرف الرئاسة أو الوزارة الاولي مباشرة وجعلها أولوية تنموية وطنية إذ يستحيل علي وكالات فرعية تحت وصاية احدي الوزارات التأثير في القطاعات الاقتصادية الهامة أو خلق أي فرص عمل اللهم إلا ما توفره من فرص لموظفيها و أطرها العاملين بها .
- ثانيا : علي مستوي السياسة الاقتصادية
اعادة صياغة جذرية للخطط و التوجهات الاقتصادية بشكل تدريجي و توجيه حصة اكبر من ميزانية الاستثمار للقطاعات الانتاجية التي تساعد علي خلق فرص عمل بدل المواصلة في اهدارها في مشاريع بني تحتية تصنف في خانة " الفائض أو غير الضروري "
وهنا يجدر بالذكر أنه حسب تقارير البنك الدولي فان الاستثمارات في مجالات البني التحتية ( الطرق ، الكهرباء، الموانئ ) خلال العشرية الاخيرة استهلكت حوالي 90 بالمائة من مجموع الاستثمارات في حين لم تحظي القطاعات الاجتماعية ( التشغيل ، الصحة ، التعليم ) سوي 10 بالمائة .
إن إعادة هيكلة الاستثمارات العامة او جزء منها علي الاقل و توجيهها الي قطاعات انتاجية و صناعية كالصيد و الزراعة و التنمية الحيوانية و السياحة ..الخ شرط لاغني عنه لخلق الوظائف و محاربة البطالة
- ثالثا : تفعيل المشاريع الحالية المتباطئة
من الاهمية الاشارة الي ان هناك فرص عمل هامة قد تشكل متنفسا جزئيا للازمة الحالية اذا ما تم انجاز المشاريع الحالية المتوقفة و التي من اهمها مشروع سكر فم لكليتة في المجال الزراعي و تفعيل العلاقة مع الاتحاد الاوروبي من جديد بما يسمح برجوع الاسطول الاوروبي للمياه الموريتانية و ايضا تفعيل بعض مشاريع استخراج المعادن ( مناجم حديد العوج و تماكوط و أسكاف ، يورانيوم بير امقرين ، منجم فوسفات بوفال ، منجم ذهب تيجيريت بالإضافة الي توسعة تازيازت ) بطبيعة الحال فان الحكومة القادمة كشريك هام بإمكانها العمل مع الشركات المتعاقدى تفعيل بعض هذه المشاريع بشكل استعجالي .
من شبه المؤكد ايضا أن الغاز الموريتاني المرتقب سيوفر مداخيل اضافية هامة للخزينة العمومية لكن ذلك لن يحدث إلا بعد انتهاء مأمورية الرئاسة القادمة تقريبا وسيبقي العائق الاكبر هو مواصلة نفس النهج الاقتصادي في التركيز المطلق علي مشاريع البني التحتية و إهمال الانتاج الصناعي و الزراعي وهو ما سيؤدي حتما الي مواصلة استفحال البطالة .
- رابعا : تكوين حضانة وطنية حقيقية للمشروعات الصغيرة
لا يمكن للمشروعات النجاح ، إلا إذا توفرت لها رعاية حقيقية. وهذه الرعاية يمكن أن تتحقق من خلال تكوين حضانة وطنية مركزية وحضانات محلية فى الجهات لرعاية المشروعات الصغيرة والتعاونية .
يتركز دور الحضانات أساسا فى مساعدة الراغبين على إقامة مشروعات صغيرة على اختيار المجال الذى سيعمل مشروعهم فيه، من خلال تلقى دراسات الجدوى الاقتصادية الخاصة به وتقييمها، وطرح بدائل أكثر ملاءمة وجدوى، ترتبط باحتياجات المجتمع المحلى من السلع والخدمات ، كما تعمل تلك الحضانات على توفير التمويل الميسر للمشروعات الصغيرة سواء من خلال الميزانية العامة أو من خلال حشد التمويل الخارجي خصوصا أن العالم يشهد حاليا طفرة في مجال تمويل هذا النوع من الانشطة .
- خامسا : إقرار نظام او صندوق لإعانة العاطلين ماليا
ان أكبر عائق يمكن ان يطرح أمام فكرة انشاء صندوق لإعانة العاطلين –علي غرار الكثير من دول العالم – هو عدم وجود موارد لتقديم هذه الإعانات ، ولكن حقيقة الامر لا تتعلق بغياب الموارد وإنما بترتيب الأولويات فمنذ عقود يتم منح الاولوية لمشاريع ثانوية من حيث الجدوائية الاقتصادية و الاجتماعية قبل الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين.
وكمقترح يمكن تمويل هذا الصندوق في مراحله الاولي من العائدات الضريبية علي سعر المحروقات ، بدل تجميعها في حساب خاص من اجل تمويل مشاريع البنية التحتية أساسا
- ختاما : تحسين التعليم
كما تحتاج موريتانيا إلى تحسين التعليم. فينبغي أن تركز الحكومة على زيادة معدلات الالتحاق بالتعليم ، وتحسين جودته ، وضمان تسليح القوى العاملة بالمهارات التي تتناسب مع احتياجات أصحاب الأعمال ..
وختاما
لقد كانت شعارات "رئيس الفقراء " و " رئيس الشباب " عناوين رئيسية في الانتخابين الرئاسيين الاخيرين فلنجعل من شعار "رئيس العاطلين " العنوان الابرز في الانتخابات القادمة و لنجعل من " خلق 200 الف وظيفة انتاجية رسمية " تعهدا انتخابيا حقيقيا و من ثم برنامج عمل خلال الخمس سنوات القادمة .