على الرغم من أن كل البرامج الحكومية التي شهدتها العشرية الأخيرة هي روافع تنموية لا يمكن الحديث عن تنمية بدونها، إلا أنها أيضا كانت برامج اجتماعية كان للفقراء نصيب الأسد من انعكاساتها الإيجابية، وفي هذا رد منا على المتسائلين ماذا جنى الفقراء من هذه العشرية، أو ماذا كان انعكاس النمو على حياتهم؟ الفقراء إذا كنت ناصحا لهم فطور مناطقهم وزودها بما استطعت من خدمات أساسية تفتح أمامهم فرص الإنتاج ودعهم هم يخلقون الدخل بأنفسهم..
فتخطيط الأحياء العشوائية عبر توزيع وتمليك ما يزيد على 150 ألف قطعة أرضية لمواطنين ظلوا يشكلون أحزمة بؤس حول كبريات المدن وخاصة في مدينتي نواكشوط ونواذيبو، كان موجها بالأساس للفقراء الذين ما عاشوا في هذه الأحياء المهملة لعشرات السنين إلا لأنهم غير قادرين على شراء مساكن أو حيازة الملكية العقارية.
والمشروعات المائية الهيكلية في أحياء نواكشوط وفي مناطق " آفطوط " وأظهر، وكّري وسيليبابي ولبراكنه، والشبكات المائية في القرى والتجمعات والأرياف هي برامج تنموية ولكن المستفيد الأساسي منها هم ألئك النسوة اللائي كان يضيع عليهن نصف اليوم، وأحيانا اليوم كله في جلب الماء على رؤوسهن ومن أماكن بعيدة عن قراهم، وألئك الأطفال الذين كان ذووهم يُخرجونهم من الفصول الدراسية قبل نهاية الدوام ليرسلوهم لجلب الماء، أو لنقل " شبه الماء " لأن ذلك الماء في الغالب غير صالح للشرب إما لملوحة عالية أو يرقات ضارة أو جراثيم أو كل الملوثات معا، وهنا يصبح الماء الذي هو إكسير الحياة وعصبها علاوة على صعوبة الحصول عليه هو أيضا عامل مرض ويعجز من كان يجلبه في النهاية عن جلبه!
كذلك فإن الطرق المعبدة التي شبَّكت مناطق البلاد فيما بينها مدنا وقرى وتجمعات قرَّبت المسافات وسهَّلت الحياة، وكان المستفيد الأكبر منها هم ألئك الفقراء الذي لا يملكون سيارات، وكانوا يفكرون ألف مرة قبل نية السفر إلى مناطقهم أو مغادرتها بفعل العزلة ووعورة الطرق خلف الأودية والرمال والجبال، بل ألئك المرضى شيبا ونساء حوامل الذين كانوا يُحملون من قراهم ومدنهم على عربات الحمير إلى المراكز الصحية وغالبا يلفظون أنفساهم قبل الوصول إليها! هذا فضلا عن أنعاكاسات فك العزلة على تسهيل التموين بالسلع الأساسية والتبادل التجاري بين مناطق البلاد واستفادة الفقراء من تلك الوضعية.
أيضا فإن ربط أغلب مناطق البلاد بشبكات الكهرباء التي هي عامل تنموي حيوي ومحوري خدم كل ساكنة هذه المناطق ولكنه خدم بالأساس الفقراء من خلال إتاحة فرص ممارسة أنشطة اقتصادية وإنتاجية لم يكن من المتاح ممارستها في غياب الكهرباء كورشات اللحامة والحدادة وإصلاح العجلات، والأنشطة التجارية الصغيرة والمتوسطة القائمة على حفظ وبيع المواد الغذائية. ناهيك عن الحركية الاقتصادية التي نتجت عن كهربة هذه المناطق والتي خلقت أنشطة اقتصادية أخرى قام بها تجار ومستثمرون في هذه المناطق ووفرت مزايا لهؤلاء الفقراء من خلال المناولة والتشغيل.. دون أن ننسى انعاكسات الكهرباء على الجوانب الصحية لسكان هذه المناطق التي كان ميسوروها ينتقلون للإقامة في مناطق أخرى تتوفر فيها خدمة الكهرباء ويبقى فقراؤها حتى حقنة الأنسولين لا يملكون وسيلة لحفظها..!!
وبالطبع قرَّبت المستشفيات الكبيرة والمجهزة بالأجهزة والأخصائيين التي تمت إقامتها في كبريات المدن خدمات العلاج لسكان هذه المدن وسكان المناطق المحاذية لها بالحصول على قدر لا بأس به من الخدمات الصحية التي كان أقربها إليهم مدينة نواكشوط، فهناك القادرون على التنقل بحثا عن العلاج في العاصمة أو حتى خارج البلاد ولكن هناك من هم غير قادرين على ذلك، ونفس الشيء بالنسبة للمراكز والنقاط الصحية التي تتولى القيام بالعلاجات الأولية وبرامج الصحة القاعدية التي أقيم الكثير منها في القرى والأرياف بسكانها الذين يغلب عليهم الفقر. كما كانت سياسة التحسين من الخارطة المدرسية ووضعها بعقلانية وجدوائية حدت من الخلل الذي كان قائما بوجود المدارس في بعض المناطق نتيجة لحظوة أو جاه سكانها وبقاء مناطق أخرى بدون مدارس لأن لا وجهاء أو نافذين مهتمين بها، فوفرت الخريطة المدرسية الجديدة إقامة مدارس مكتملة في مناطق الفقراء ورأينا أبناءهم يصطفون بالمئات أمام هذه المدارس، وما كانوا ليخطوا حرفا لولا هذه السياسة.
وبالطبع تم استصلاح آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية وشق قنوات الري إليها لتشجيع الزراعة من طرف الفاعلين وكبار المستثمرين الزراعيين، ولكن صاحب ذلك أيضا استصلاحات زراعية ومائية في مناطق الفقراء وبدؤوا يمارسون زراعة أراضيهم بشكل أفضل.
إلا أن هناك برنامجان لهما طابع اجتماعي بحت ومكملان للبرامج التنموية الأخرى هما ما أردت التنبيه على ضرورة توسيعهما وتعميمهما وإحاطتهما بما يقابل أهميتهما من عناية ومتابعة وتقييم وتحسين مستمر.
أحد هذين المبرنامجين هو برنامج المحاظر النموذجية في المناطق الأقل حظا من التعليم الذي انطلق قبل ثلاث سنوات من الآن ب 16 محظرة على عموم التراب الوطني وخاصة في المناطق الريفية التي أخذ البرنامج إسمه من وضعيتها، والذي تم توسيعه بعد ذلك ليرتفع عدد هذه المحاظر من 16 محظرة إلى 60 محظرة نموذجية تعتمد بالأساس على تدريس القرآن الكريم مع تشجيع نقدي لطلاب هذه المحاظر ضمانا لمواصلة تعليمهم، وقد قطع طلاب هذه المحاظر أشواطا لا بأس بها في مسارهم التعليمي، فمنهم من حفظ نصف القرآن ومنهم من حفظ الثلث أو الربع.. وقد أشرف وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي يوم أمس في حي الترحيل بمدينة نواذيبو على افتتاح المحظرة السابعة والأربعين من أصل ال 60 محظرة التي تم إقرارها.
فإذا كانت لا تزال هناك ظروف مادية أو بشرية أو فنية، أو ظروف تتعلق بعقلية المجتمع ذاته تحول دون تعميم التمدرس في وقت واحد خاصة في بعض المناطق التي لم تعرف في السابق وجود المحاظر عبر التاريخ والتي قامت بدور كبير في محو الجهل وتحصيل العلم في بعض مناطق البلاد، فإن هذه المحاظر النموذجية سيكون لها الدور الكبير في تعويض هؤلاء ما فاتهم من فرص تعلم وتحصيل، ولن يخيب من حصَّل في صدره القرآن العظيم أو أجزء منه، وسيكون ذلك هديا ينير له طريقه في ما سيتلقاه بعد ذلك من معارف أو تكوين على حرف أو مهارات في مختلف التخصصات.. علاوة على دور هذه المحاظر في حفظ الهوية الثقافية للبلد والمجتمع، بالإضافة إلى جانب آخر لا يقل أهمية وهو شغل وقت الأطفال خاصة في كبريات المدن بأوقات الدراسة في هذه المحاظر عن التواجد في الشارع والفضاءات الأخرى التي لن تفيدهم شيئا بل قد تنحرف بهم إلى متاهات الجنوح والجريمة والضياع.
فمن المهم إذن توسيع وتعميم هذه المحاظر النموذجية، والأهم من ذلك متابعتها والتقييم الدوري لأدائها وحصيلتها، وتثقيف شيوخها حول الرسالة التي يؤدونها والهدف منها، وإيثارهم على غيرهم من حيث التشجيع المادي كون أغلبهم يمارسون التدريس في محاظر بمناطق ريفية قد لا تتوفر فيها كل وسائل العيش المتوفرة في مناطق حضرية غيرها، هذا إذا لم يكفهم من التشجيع استحضار عظمة الرسالة ونبل الهدف ( خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه.. ). فهذا البرنامج جدير وبحق أن يكون من بين البرامج المحورية ذات العناية الفائقة.
أما البرنامج الآخر فهو برنامج توزيع الأسماك بأسعار رمزية في المناطق الداخلية والذي بدأ قبل سنوات وظل يتوسع من حيث افتتاح منصات له في عواصم الولايات وبعض عواصم المقاطعات، وتضاعف الكميات التي يوزعها سنويا حيث انتقلت من 4000 طن عند بدايته إلى ما يزيد على 8000 طن اليوم. هذا البرنامج الذي أنا على يقين من أنه لم تم إجراء مسح صحي وغذائي في أوساط المستهدفين به قبل دخول مادة السمك في غذائهم اليومي، وأجري مسح آخر في أوساطهم بعد دخول هذه المادة في غذائهم فلا محالة سيتضح التحسن الكبير على وضعهم الصحي والغذائي، ذلك أن البروتين السمكي هو أجود أنواع البروتين وهو في نفس الوقت غذاء ووقاية، وبالإضافة إلى تشجيع زراعة الحبوب والخضروات في أوساط هؤلاء السكان وتعميم برنامج توزيع الأسماك على كافة مناطق البلاد حيثما توفرت الكهرباء فسنقضي على نقص الغذاء أو نكاد، وليس ذلك فقط بل سيشكل ذلك رافعة كبيرة في المجال الصحي، ويختفي الكثير من أمراض سوء التغذية ووفيات الأمهات والأطفال التي للجانب الغذائي مساهمة كبيرة في نسبها التي لا تزال مرتفعة، مع أنه بدخول وتطور وانتشار تقنيات الطاقة الشمسية أصبح بالإمكان وضع برنامج لإقامة شبكات للطاقة الشمسية بالقدر الذي يضمن توفير هذه الأسماك في المناطق التي لم تصلها الكهرباء بعد، حتى ولو تطلب ذلك زيادة سعر الكيلوغرام من هذه المادة ب 50 أوقية مثلا فستظل في متناول المستهدفين موفرة لهم ابروتينا جيدا وغذاء ووقاية في نفس الوقت لن يوفره لهم أي مصدر آخر للبروتينات نوعا ولا تكلفة.
وقد يقولون لك إن نوعية هذا السمك ليست من أجود أنواع الأسماك.. صحيح وطبيعي كذلك، فالنوعيات عالية الجودة من الأسماك عليها طلب كبير في الأسواق العالمية ويصطادها أجانب أو صيادون محليون ويتوخون من اصطيادها تعويض التكاليف والربح بعد ذلك، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصل إلى الفقراء بهذا الكم وهذا السعر ولا حتى بالقريب منه، لكن العبرة هنا بالقيمة الغذائية للأسماك المخصصة لهذا البرنامج الإجتماعي ومن تلك الناحية فهي أسماك ذات قيمة غذائية كبيرة، والمستفيدون منها مقبلون عليها ومقرِون بما حسَّنته من ظروفهم المعيشية، وذلك هو الهدف.