تحسين جودة المؤسسات وإضفاء الأخلاق على الحياة العامة
إن هشاشة المؤسسات و ضعف دولة القانون، إلى جانب الفساد وانتهازية النخبة، كلها عوامل أوهنت إلى حد كبير من مصداقية الدولة والطبقة السياسية. ولذلك، فإن إرساء وإنجاح مشروع تجديدي وطني سوف يتطلب تحولات عميقة في الحياة السياسية.
ذلك أن الديمقراطية لا يمكن اختزالها في مجموعة من الأعراف أو "فولكلور" يتم بموجبه تنظيم انتخابات بشكل دوري مع منح بعض الحريات لوسائل الإعلام الخاصة ليقول الجميع ما يشاءون ثم ينفض الجمع وتنتهي العملية... بل إن الديموقراطية تُشكل بنية فلسفية متسقة، ومنظومة متكاملة من القوانين والتنظيمات والقواعد، والمؤسسات المَهيبة والمُحترمة من قِبل الجميع وخاصة من الجهاز التنفيذي.
إن بلدنا يستحق سلطة تنفيذية تقف عند حدودها ولا تتعدى على صلاحيات السلطات الأخرى، كما يستأهل برلمانا قويا لا يرضى أن يكون مجرد "غرفة تسجيل".. وبالطبع، وقبل كل شيء، يستحق بلدنا قضاء مستقلا، محايدا بالفعل، وقويا لا سلطان لأحد عليه.
وللمضي في هذا الطريق، يمكن الاعتماد على خمس رافعات أساسية لتحسين جودة المؤسسات وإضفاء الأخلاق على الحياة العامة :
1- المراهنة على الموارد البشرية المُخصصة للمؤسسات. إذ أن جودة المؤسسات، والتي هي شرط لا غنى عنه لتحقيق الإقلاع الاقتصادي، تتطلب بداهة، كفاءةَ وجودة أداء الموظفين. وهذا يقود بالطبع إلى ضرورة الاستثمار في رأس المال البشري من خلال التدريب والتسيير الفعال للموارد البشرية وإعطاء القيمة للكفاءة وحسن الأداء.
2- إضفاء الصبغة الأخلاقية على الحياة السياسية
أ- لمعالجة الانحراف المشهود في منظومتنا القيمية، ومعالجة استسلام النخبة وميوعة تعهداتها ورخاوة التزامها، ليس أمامنا من خيار سوى المضي فى إعادة بناء وإرساء نظام القيم والإصرار على إعادة الاعتبار إليه، بما في ذلك مصداقية القول السياسي. وإن احترام الالتزامات والوفاء بالوعود والاستقامة والأمانة الفكرية تأتى في مقدمة الفضائل التي علينا أن نعيد الاعتبار إليها، في مقابل التملق المشين والتزلف العقيم.
ب- تعزيز مصداقية الخطاب السياسي. و لتحقيق ذلك، تتحتم القطيعة مع اللغة الفضفاضة وأن نتخلص من "لغة الخشب" وشعاراتها الجوفاء. كما سيتوجب تجريم "الحنث باليمين" استهدافا للأكاذيب التي قد يقترفها المسؤولون العموميون خلال التصريحات الرسمية الموجهة للشعب أو لدى استجوابهم أمام النواب، أو في سياق الشهادة تحت اليمين.
ج- حظر التزوير الانتخابي وتجريم الأفعال الصارخة المتعلقة به، مع وضع آليات لمنعه و كذلك ضمان حياد الإدارة. وبالطبع، يبقى كل هذا مرتبطا بشكل وثيق بعمل واستقلالية أجهزة العدالة المختلفة.
د- سن مستوى أدنى من الدراسة لقبول الترشح للمناصب الانتخابية. إذ يجب أن يكون لممثلينا من المنتخبين فهمٌ جيد لأدوارهم المنوطة بهم، وأن يحملوا فهما مشتركا ورؤية واضحة ومتناسقة عن مفاهيم المساواة والحرية والقانون والعدالة. يجب أن تكون هنالك أرضية مشترك ومنطق يحكم الخطاب والنقاش السياسي.
ه- تنظيم دورات لصالح المنتخبين لتعلم اللغات الوطنية في الجمعية الوطنية وفى المجالس الجهوية، مع إلزامية التسجيل على كل منتخَب ليتعلم على الأقل إحدى اللغات الوطنية يختارها، غير لغته الأم. وبذلك يقدمون المثال ويجسدون بعضا من مقومات الوحدة الوطنية.
و- احتواء القبلية والحد من تأثير الانتماءات الفرعية المنافسة للمواطنة (الجهوية، القبلية، الخ) : وطبعا يتم ذلك عن طريق التعليم ومن خلال حملات التوعية والتثقيف والتحسيس التي ينبغي إطلاقها فى جميع المناطق، بما في ذلك المناطق الريفية.
3- إنشاء مرصد مستقل يراقب فصل السلطات. على أن تناضل هذه المبادرة المدنية وتراقب وتطالب بمزيد الشفافية في تحقيق الفصل بين السلطات وتجسيد الوضوح في اختصاصات مختلف المؤسسات، لمنع التداخل والتعدى على صلاحيات بعضها البعض.
على أن ينشر هذا المرصد تقريرا سنويا عن حالة "فصل السلطات وجودة المؤسسات" في البلد.
4- المحاربة الفعالة للفساد والرشوة وجعلها دعامة أساسية لتطوير وتجديد العقد الاجتماعي، ويتطلب ذلك
أ- تعزيز هيئات الرقابة والتفتيش وضمان استقلالها كي تتمكن من تنشيط عملها، ومن أجل وضع حد للإفلات من العقاب. وإطلاق عملية تحت اسم "اليد النظيفة"، على أن يتم إطلاقها بشكل عاجل وتضرب بقوة لإنجاز التنظيف الضروري، كي ننطلق من جديد على أسس سليمة.
ب- تعليق لمدة 5 سنوات "لصفقات التراضى"، والتي سيتم حظرها بشكل صارم بالنسبة للعقود التي تزيد قيمتها عن سقف يتم تحديده.
ج- دعم المنظمات غير الحكومية ومبادرات المجتمع المدني المناضلة ضد الفساد وتخويلها إمكانية رفع دعاوى وتشكيل طرف مدني أمام المحاكم ضد كل الجرائم المتعلقة بالرشوة.
د- محاربة المحسوبية والمتاجرة بالنفوذ، من خلال ضمان الشفافية التامة في اكتتاب موظفى الدولة عن طريق مسابقات نزيهة لا يمكن الإعتراض عليها ؛ كما يتحتم أن يستند تقدُّم الموظفين فى ظائفهم إلى الجدارة وجودة الأداء.
وستكون نفس الشفافية مطلوبةً أيضا فيما يخص إرساء الصفقات العمومية ومنح العقود (فى تطبيق أكثر صرامة لإجراءات المناقصة).
5- الاستعانة بالتقنيات الرقمية الجديدة للتخفيف من بطء الإدارة.
علينا أن لا نتردد في اعتماد الوسائل العصرية ل"الحكومة الإلكترونية"، والتي من شأنها أن تقرب المسافة بينها وبين المواطن، تسريعا للمعاملات الإدارية وتسهيلا لمعالجة شكاوى المواطنين وتحسينا للأداء بشكل عام.