موريتانيا إلى أين (الحلقة الأخيرة)
خـــــــاتمة: ما اللاعـــــمل ؟
موريتانيا إلى أين؟ يبدو السؤال سيزيفيا بنسبة معتبرة. فقد تعاقبتْ
حرْفياً وتزاحمتْ الأدوار والأسماء، أسماء الأنظمة مثلاً وأسماء الحكّام،
وبقيتْ الدولة تعيش في أزمة معنى دائمة ومستعصية. بعبارة أدقّ فإن الدولة
الموروثة عن الاستعمار لا تعيش فقط أزمة معنى مؤبّدَة بل تمثلُ هي نفسُها
هذه الأزمة المؤبّدَة. فقد لا نبالغ حين نقول إنّ الدولة
النيوكولونيالية، في الحالة الموريتانية على الأقلّ، هي الأزمة الملموسة.
ففرضية كون الدولة إطارا عقلانياً اعتبارياً هي فرضيةٌ دخلتْ في مجال
“المسكوت" عنه أو المنفي من مجال المعنى رغم التضخم الإنشائي في الإحالات
إليها. بهذا الاعتبار فالتبرير الاجتماعي التاريخي لوجود الدولة كعقْد
ضمني، أو كوازع عمومي، ليستْ وجيهة حين يتعلّق الأمر بالدولة
الكومبرادورية وبجوهرها الوساطي المفارق.
ولكن مع ذلك فإن الدولة لا تبررُّ وجودها لا داخليا ولا خارجيا بهذه
الوظيفة الوساطية إلا بشكل ضمني أو موارب، وهو ما يجعلها محتاجة دائما من
قِبَل وكلائها الداخليين والدوليين إلى منحها معنى إضافيا.
هل وصلتْ الدولة الموروثة نهايتَها مع تكثيفها الأوجي ومع تراجع آلياتها
التجدّدية؟ هل دشّنتْ الدولةُ الفوقية لحظةَ القطيعة وبدأتْ تستهلك
نفسَها وتتقوَّضُ ذاتيا ولو جزئيا أمام الألغام الخفية التي ظلّتْ
تَـحمِل في طياتها؟
قد لا يكون من المبالغة التأكيدُ أولا على أن مرجعياتها الثنائية أخذتْ
تفقد كثيرا من بريقها، وأن النخبة التي مثلتْ عمودَها الفقري بدأتْ تتآكل
جدّيا. ولم تعد المغالاةُ في استثمار البنى التقليدية المحدثة قادرةً على
إخفاء هذا التآكل لمرحلة طويلة قادمة.
ولكنْ كما ظهر في كثير من مناطق العام فإن هشاشة الدولة الكومبرادورية هي
أحد مكوناتها الجوهرية في وظيفتها لدى الشركات الكبرى ولدى الدول
المرتبطة بهذه الشركات.
غير أنّ هشاشتها في الحالة الموريتانية تتغذّى من خيبتها التأسيسية. فهي
حزامُ نقلٍ لريع تبشيري منتظرِ ودائم التأجيل في آن. إنها منذ البداية
دولة ريع "غودو"، دولة الريع الذي سيأتي ولا يأتي. وهي، بذلك، الأزمة
الملموسة التي لا تبحثُ عن حلّ من خارجها كأزمة. فهي الدولة المدانة
تأسيسياً بأن تكون دولة ريعية والتي مع ذلك لا تريد أن تكون إلا دولة
ريعية، أيْ أنّ أقصى طموحها هو أن تتحقّق أخيراً كدولة ريعية نافذة
الإدانة.
يصبح سؤال "ما العمل؟ في هذا السياق ذا دلالة عكسية. يترجم السؤالُ
المنطوق في حقيقته البديهية سؤالاً ضمنيا هو "ما اللاعمل؟". وإحدى تجليات
الأخير هي كيف يمكن تحقيق أكبر كمية من الاستهلاك دون أدنى إنتاج. فقد
ظلّ "العقل" الدولتي الموريتاني منسجماً مع مبدأ الانتروبولوجيا
الاستعمارية الذي يَفترضُ أن قيمة العمل هي قيمة قدْحية في ثقافة الغرب
الصحراوي، منسجماً مع مبدأ الإطار المغلق لريع "جبل الحديد".
فلربّما لا تكون الدولة المابعد استعمارية وضعاً على المحكّ التجريبي
المحلّي لصورة نمطية خارجية وإنما هي، فيما يتجاوز ذلك، نوعٌ من "شرْق"
المستشرق بالمعنى الذي روّجه أدورد سعيد، أيْ أنها تجسيدٌ معياري للصورة
القبْلية الخارجية.
وبهذا الاعتبار يظلُّ سؤال "نخب" الدولة عمّا يجنّبُ "العملَ" هو تزامنيا
عمّا يُجنّبُ أسئلة التاريخ المحرجة. وهو ما عني ميدانيا الطموحَ الحصري
لاكتشاف ما لمْ تمنحه "كدية الجلد"، أي لاكتشاف بعض المواد الخام التي
يمكن أن تعوّض "الخيبة" التأسيسية وتمنحَ الكسل الشامل حين تشتري ما
"يكفي" من عمل الآخرين.
بتعبيرٍ بديلٍ، كانت الإجابةُ الوحيدة للطبقة السياسية الموريتانية على
حالة الأزمة الدائمة، أعني الإجابة على دولة الأزمة، هي "لقد اكتشفنا بعض
المواد الخام" أو"لقد اقتربنا من اكتشاف بعض المواد الخام". كانت إجابتها
هي إذاً من نمط: لقد اقتربنا من حالة التبرير الريعي الفعلي للاعمل.
ظلّتْ الدولة الريعية في صيغتها "الأعرابية" الأفقَ غير القابل للتجاوز
بالنسبة للعقل المهيمن.
وُلدتْ إذا موريتانيا كمشروع دولة ريع بلا ريع، كمشروع دولة أقصى طموح
أغلب نخبها السياسية هو أن تصبح دولة ريع. فهل سيتغير مشروعُها جذريا إن
أصبحتْ دولة ريع فعْلي كما قد يحدث في العشرية القادمة إن صدقتْ تسريبات
الشركات العالمية المعنية ؟ هلْ كانت تشييداً لدولة لا تقف مفارقيا إلا
على الريع المحض دون أن تملكَ تقريباً أي ريع؟ وهل ستتغير الصيغة أم
ستتكرّس حين يصبح الريع واقعاً أكثر جدية بعد عقود من حضوره الطاغي
كاستيهام تعويضي؟ وما الذي يمكن ان يحدث بالمقابل إنْ خابت التوقعات
الريعية ستة عقود بعد "الخيبة" الأولى؟
وإنْ كانت النسبة القليلة من الريع التي توفرتْ في السبعينات لم تكن
تماما أجنبية على الحرب التي اندلعتْ فإن الريع المتوقع حاليا حتى وإن لم
يأت بالحجم المتوقّع فإنه يعيد إلى الأذهان تجربة السبعينات ولكن في سياق
إقليمي ودولي أكثر هلامية وتقلّباً وأشدّ خطرا.
وفيما يتجاوز وعدَها الريعي المؤجّل ربّما إلى حين، فإن الدولة ظلتْ
مرادفةً للسؤال الذي عنيتْه منذ أن بشّرتْ بنفسها ككيان مشرعَنٍ خارجياً.
حين نَنْظرُ إلى المؤشرات الديمغرافية وإلى التحولات الاجتماعية المحايثة
لدولة الريع المعلّق، وحين نأخذ على محمل الجد الطموحات والنرجسيات
الجماعية النازفة ندرك أن العشر سنوات القادمة مهيأة لتحولات تبدو غير
قابلة للكبح. وإذا لم تحدث تحولات جيوستراتيجية عالمية وإقليمية غير
منظورة أو غير متوقعة فإنّ السياق الداخلي مرشّح لارتجاجات كبيرة.
فمن المحتمل جدّاً أنّ البنى الدولتية والاجتماعية القائمة غير قادرة على
تحمل الهزات القادمة في الأمد المتوسط وربما القريب. ولم يعد مستبعدا أن
يكون المجال التاريخي الذي بدأ بولادة الدولة الموريتانية من رحم الإدارة
الاستعمارية قد اقترب من نهايته. ولا تبدو النخب السياسية الحاضرة في
المشهد معنية كثيرة باستباق هذه التحولات. صحيحٌ أنها نخب يخيمُ عليها
بشكل عام مناخ تشاؤمي ولكنّه غالبا تشاؤم إنشائي، أي "توثيني" واستسلامي.
بلْ إن هذه الذاتية "التوثينية" لوحدها تشكل خطرا، وتقف عقبة أمام أي
عقلنة للاستشراف.
وإن كان من المرجّح أنّ الطبقة السياسية في عمومها ستشهد تحولا كبيراً
وإعادة تووزيع كبيرة للأوراق على الخشبة في الاستحقاقات الرئاسية القادمة
فإن ثنائية الخشبة والكواليس السائدة غير مرجّحة لأي تغيير له دلالة مهمة
بالنسبة لموضوعنا. فالعقل السياسي السائد لا يبدو مهيئا لأي تغيّر بنيوي.
وهو بالتأكيد لا يمتلك ببنيته الحالية جهوزية تذكر لمواجهة الطفرات
القادمة.
ورغم تغير الأسماء والأدوار فقد ظلتْ التواطؤات الألغاركية تزداد حرصاً
على تأمين سياجات الحلقات المحدودة المستفيدة دون حدودٍ من الريع
الدولتي، وتزداد، لنفسِ الأسباب، حماساً لتمجيد "اليانصيبية" من حيثُ
الأخيرةُ تعني تقسيم رهان الجميع بين عدد قليل، أي تعني، في الحالة
الموريتانية، تقاسمَ ريع دولة الريع المحدود بين شركاء الحلقات المحدودة.
ولعلّ في ذلك ما يشرح جزءاً من "الكلام" السائد عن غاز النهر المكتشف.
فهو يعني رمزياً العودة من جديد جنوباً إلى ضفاف أرخبيل سينلوي بعد أن
سمحتْ العقود الستة الماضية من إدراك مَدى تمنّع جبل الحديد شمالاً.