استهلا للحقيقة من الواجب القول إن الخوف الذي يعتري بعض الشرائح من الحديث عن فكرة التميز الايجابي هو خوف غير مبرر على الإطلاق، وربما يكون مرده أن هذا التميز لن يكون ذا معنى خاصة أن غالبية الشرائح في موريتانيا تعاني بطريقة ما من تهميش من نوع ما.
في الجانب الآخر إن معظم الحراطين و خاصة من الشباب، غير مدركين للتميز الايجابي كفكرة لذلك كثيرا ما يصوره على انه "تغربة" الشرائح الأخرى ستين سنة حتى يقتص الحراطين لأنفسهم من ذلك الماضي، المعضل الآخر أنهم لم يحددوا بعد أي تميز يحتاجون فالأمر يشبه إلى حد كبير بقرة بني إسرائيل و لكن القصة بالمعكوس تماما، فالحراطين كشريك و طني مزمع يجب أن يعرف ماذا يريد و ماذا يحتاج، من اجل بناء شراكة مباركة مع الشرائح الأخرى في ظل مواطنة قوامها الثقة و الثقة فقط ثم المصير المشترك .
*****التميز الايجابي الذي يحتاج أي مجتمع في أي سياق أن يكون فعلا حكوميا ضمن سياسية عمومية مدروسة و مدعومة من الدولة ذاتها، أي أن يكون هذا التمييز تجسيدا "لواقع الدولة في حالة فعل اتجاه مكونة أو شريحة الحراطين"، وهو ما يعني أن من يتصدون للشأن العام من فاعلين و نشطاء و مناصرين تكمن مهمتهم الأساسية في التنظير والتخطيط والرقابة وتحديد بوصلة التميز المطلوب وسياقاته، وليس السعي إلى فرضه أو تطبيقه،
فالفواعل الاجتماعية بطبيعة الحال هي فواعل اقتراحية و رقابية و فاعليتها محكومة بمدى قدرتها على حشد وجمع كل المتضررين من مختلف الشرائح وبجميع طبقاتهم و اثنياتهم، فالمهم أنهم يشتركون في ذات المشكل، ومع ذلك فمن الضروري وجود مثل هذه الفعاليات التي تشغل الهوة حيث فشلت عقول الدولة أو غابت على الأصح، في ظل اختيار الحكومات للسياسيات الترقعية في كل شيء على مدى الستين سنة الماضية من تاريخ الدولة.
سنتفق إجرائيا أن ما نسميه التميز الايجابي أو السياسيات الاستثنائية لدعم شريحة ما، هو (مجموعة القوانين التي من المفروض أن تحقق وضعا ما في أفق زمني محدد و بإمكانيات مالية و بشرية محددة).
و التميز الذي يمثل قلقا لعض شركاء الوطن من انه قد يكون ظالما لهم كما أهم يصورون أن الحراطين لا يستحقونه، باعتبار فشل سياسيات الحكومات المتعاقبة عانت منه معظم الشرائح، هذا مع أن البعض يقدمه على أساس دفع الحراطين مثلا في مناصب و أماكن لا يستحقونها من مناصب حكومية وقطاع خاص و استثمارات، إلا إن هذا النمط من التفكير هو نتاج طبعي لمنطق هضم المطالب الشعبية و عملية تداولها في المجال العام الذي ساهمت الحكومات نفسها في بروزه بسبب استثمارها في الاجتناب الاجتماعي وحتى في الاجتناب الداخلي في الشريحة الواجدة.
فمن المعروف أن الحكومات التي تعاقبت وعاينت وعايشت الظروف التي تعاني منها مكونة الحراطين من فقر و تهميش و جهل غياب عن صنع القرار، جعل معظم الحكومات تمارس سياسية ملئ الفم بالدقيق متمثلة في صناعة طغمة مالية و برجوازيات من كل الشرائح التي تعاني التهميش كي يقال لكل فم يتكلم انظر هذا فلان و هذا علان من شريحتكم،
سياسة ملئ الفم بالدقيق لا تعني فقط قوة الدليل الذي يفر للحكومات مزيدا من الريق في كل مرة تحتاجه، بل أيضا جعل هذه السياسيات مثل الدقيق تماما مسلوبة الملح والدسم لا قيمة لها في تغذية جسم الأمة الذي تنهار أطرافه في الداخل وفي الكبات و تجمعات المتروكين التي تمثل ملاذا لذوي الدخل المحدود.ومن لا دخل لهم.
من غير المطروح للنقاش "أن المجتمع الموريتاني بحاجة إلى تمييز ايجابي" فهذا أمر مفروغ منه، ولكن هذا المطلب مطروح للحراطين في العقود الأخيرة أكثر من غيرهم و ذلك لأسباب تتعلق بالكم السكاني وهو ما جعل الأزمة التي يعيشون بادية للعيان و بشكل ظاهر جدا أكثر من أي شريحة أخرى.
التمييز الذي نحتاج هو تمييز يتبنى مقاربة ترابية مجالية تشمل الكبات وآدوابة و الداخل الموريتاني بأكمله، هذا التميز الترابي يتمثل في عناصره الأهم في الاستصلاح الشامل للتربة (بناء مدارس و محاظر و معاهد مهنية و واستصلاح زراعي و بناء مصانع استغلال اللبن و الوبر وتطوير الصناعات التقليدية والمدارس والمعاهد المتخصصة في الفنون الجميلة وصالات رياضية و أندية ...الخ من متطلبات إحياء الأرض) ما يميز هذا النمط من التميز هو انه تميز محايد ليس موجه لشريحة دون أخرى، كما انه تميز وطني للوطن يبقى في الأرض مع تقلب الحكومات والأنظمة والأزمنة، هذا التمييز المحايد هو الضمان الوحيد للاختيار الحر كنوع من حالة الحياد الأصلي كما ينظر لها جون رولز.
كما أن هذا الحياد سيقدم مجموعة من الضمانات في مقدماتها تثبيت السكان في مناطقهم الأصلية وتسهيل فكرة العودة إلى المناطق الأصلية، مما سيقلل من الحزام الشعبي الناسف المحيط بنواكشوط من الكزرات والكبات التي تتحول مع الوقت إلى بؤر للشحن الاجتماعي لا يمكن تخمين متى ستنفجر.
الحكومة التي تحمل هم هذا الوطن سواء جاءت عاجلا أم آجلا، ملزمة بهذا النمط من التمييز بالذات الذي سيجعل المدارس الخاصة ليست بالخيار و يجعل التلميذ المتخرج من أدباي في الداخل في ظروف مقاربة للتلاميذ المدن، ولكنه هو ليس لديه أي طموح لمنافستهم لأنه درس لشغل مكانه في مجاله الخاص حسب المقاربة الترابية للتمييز الذي تحظى به منطقته.
إن توجيه سياسية حكومية إلى شريحة معينة أو طبقة معينة قد يكون فعلا مصدر قلق للشرائح الأخرى لحد ما، بل انه قد لا يكون مطلوب من حكومة في موريتانيا تحمل ضريبة أزمة نشأت قبل عشرات السنين ولكن بالتأكيد من شأن حكومة موريتانية تبني مقاربة ترابية لإعمار مجالها الترابي لتوفير الراحة للإنسان بما هو إنسان وطالما ان مشكل موريتانيا الأول هو الإقصاء والفقر و التهميش.
لذلك و بالمختصر إن التميز الذي نحتاج هو التميز المحايد الذي يتجاهل الشريحة بما جزء من التأزيم و يتوجه إلى المجال الترابي بما هو ثابت و عامل توحيد للمشتت فقد نختلف في كل شيء إلا أن هذا الوطن لنا جميعا و ترابه هي مجال حركتنا الوحيد الذي لن يتنازل عنه أي منا تحت أي ظرف.
للعبرة
كانت حماة "كرفاف" تملك جملا سمينا و كان لفريق ينوي الرحيل فجاء إليها وقالها أن تنحر له الجمل و انه هو سيحمل كل الأمتعة على ظهره، بعد أن أكل الجمل وحان وقت الرحيل جعلت الحماة ترفع الأمتعة على ظهر "كرفاف" ولم يبقى منها إلا حجر للتيمم قالت له متسائلة هل أضيف الحجر؟
أجابها ببرود لا يهم بجميع الأحوال أنا لن ابرح مكاني هذا.
إن الذين يقدمون وعودا كبيرا بتغيير ما حالما يشتعل فتيل الثورة إنما يقدمون وعد "كرفاف".بحمل الأمتعة وإلحاق حماته بالركب، فالمشكل الآن ليس قيام ثروة بل إن الأزمة تتمثل في إن كانت هذه الثورة ستكون ثورة مباركة أم لا.