سفارة الأرز في إفريقيا الغربية (7) / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

بكائية في تأبين فارسي المهجر سعيد فخري وأحمد مخدر

رحلة الجزائر 1976 (التآمر مع العدو)

... وكما بدأ مشروعنا الثوري من جزائر الثورة في نوفمبر 1963 يوم استصرخنا قادة الثورة العربية أن أنقذونا من العزلة والانحطاط والاستعمار الجديد؛ ها نحن نتوجه اليوم إلى الجزائر من جديد في رحلة أخرى، نحمل هموما أخرى، في ظروف أخرى تختلف تماما عن ظروف الستينيات المجيدة!

كانت الجزائر المستقلة قد انتصرت لموريتانيا الناهضة وشكلت قبل غيرها سندا ودعامة قوية لسياسة التحرر والإصلاح التي انتهجتها موريتانيا يومئذ بقيادة الرئيس المختار ولد داداه والكادحين. الشيء الذي نسج أواصر أخوة وتحالفا بين البلدين والشعبين لا تنفصم. وكانت الجزائر قد أعلنت في مناسبات عديدة حيادها في قضية الصحراء، وفي نزاع المغرب وموريتانيا عليها. ولكن ما إن صدر حكم محكمة لاهاي وتوج باتفاقيات مدريد بين المغرب وموريتانيا وإسبانيا حتى أصبح لها موقف متشدد آخر، لعل من أسبابه، إلى جانب عقدة التنافس التقليدي بينها وبين المغرب، وما تحوكه الدول الكبرى من مؤامرات ضد وحدة وانعتاق وتقدم الشعوب وضد الثورة الجزائرية والإصلاحات الموريتانية الجريئة بالذات، ما جنته المخابرات الليبية في شمال موريتانيا وفي الصحراء حين أنشأت منظمة قبلية منفلتة سلحتها ومدتها بالمال والرجال لتكون أداة لتدمير دول المنطقة وضرب بعضها ببعض ولإبادة الشعب الصحراوي نفسه!

لقد عصفت ريح مدريد وبشار فجأة بمكاسب الشعبين الموريتاني والجزائري على حين غفلة منهما، فاندلعت بينهما حرب غبية لا هوادة فيها، وأصبحا عدوين لدودين. لقد أحرقت حرب الصحراء السهل المغاربي كله ومزقت عرى وحدة شعوب المغرب العربي وشغلت بلدانه عن مهمات التنمية والنهوض وتوطيد الاستقلال التي كانت ملحة جدا.. وعن الإسهام في مقارعة العدو الصهيوني وظهيره الاستعمار الغربي! وكان قدرنا أن يكون البيظان في موريتانيا والصحراء هم وقود تلك الحرب! وذلك إرضاء لغرور وصلف ورعونة وفساد بعض زعماء المنطقة.

فصوح ربيع موريتانيا الوليد!

وكان لا بد من فعل شيء لتلافي الوضع. فقررنا إيفاد بعثة إلى الجزائر والحديث مع بوليزاريو حول أخطار وفساد النهج الذي تنتهجه لعل وعسى.. كانت الجزائر قد أصبحت بلدا معاديا يعتبر التوجه إليه خيانة وطنية! فكيف السبيل إليها إذن؟

هنا تدخلت سفارة الأرز أيضا. كان أحمد مخدر (الأستاذ أحمد مخدر) قد عاد إلى لبنان للالتحاق بالجامعة، فتولى الرئيس سعيد فخري ومساعده محمد مخدر إنجاز المهمة.

تم تحضير أوراق السفر بالتنسيق مع السفارة الجزائرية في داكار، وأشرف "الفنان" محمد مخدر على الديكور والإخراج.. فأخرجني في خلق جديد عجيب وكأني مهاجر من إفريقيا تغطي رأسي وتغير ملامح وجهي باروكة كبيرة جعدة أنكرني تحتها أقرب أصدقائي الذي التقيت به سرا في الجزائر: الطالب المناضل يعقوب جلو (النقيب يعقوب جالو)! وهذه الهيئة هي التي أشرت إليها في مقالة "في رحاب الشهداء" فقلت بعد المقارنة بين طائرتي الرحلتين: "وفي المقابل كان الفرق شاسعا: فالفتى الثائر الخارج، يومها، من نزال سبع سنوات أطاحت باتفاقيات التبعية لفرنسا، والفرنك الإفريقي، ودولة ميفرما، وأطلعت فجرا جديدا (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا) توشك أن تعصف به عواصف الصحراء الهوجاء! ذلك الفتى .. أصبح كهلا، يمتهن القانون، ويعشق العدل، ويعتنق الشرعية! "تماثل" واحد يجدر التنويه به هنا: في تلك الرحلة (1976) اعتمرت، للتمويه، لمة سوداء داكنة جعدة مستعارة، وفي هذه (2003) ألبستني الليالي لمتها الخلقة الشمطاء!"    

... وتمت رحلة الجزائر بسلام بفضل رعاية سفارة الأرز! فلم تسمع عنها المخابرات الموريتانية خبرا ولم تر لها أثرا؛ وكان بإمكان تلك الرحلة تدارك الوضع وتمحيص الخط السياسي "الصحراوي" لولا تحكم المخابرات الليبية والجزائرية في قيادة بوليزاريو التي أصبحت رهينة في أيديهما، واختفاء  الولي المبكر رحمه الله، الذي كان متشائما، وعقب في لقائنا الأخير على مباحثاتنا فقال: "لقد غرقنا ولن نغرق وحدنا"! ورغم ذلك فقد وضعت تلك الرحلة معالم في الطريق؛ إذ بينت حقائق جوهرية منها على سبيل المثال:

- رفض الكادحين خيانة وطنهم، وتشبثهم بسياسة الوحدة الوطنية؛ وبالتالي عدم قبولهم القيام بدور طابور خامس يطعن الوطن من الخلف ويمهد التربة لمخططات الإخوة الأعداء.

- دحض الكادحين لسياسة الحلقة الضعيفة والعدوان المستمر على موريتانيا، وأطماع الصحراويين في موريتانيا وتجنيد وتجنيس المواطنين الموريتانيين على أساس انتمائهم القبلي!

- شجب الكادحين لعفوية وزيغ وطفولة بوليزاريو ورفضهم الخضوع لها كما فعل البعض، ومعارضتهم الانقلابات العسكرية الرجعية وحكم الجيش، وسياسة الانهزام والانسحاب الأحادي من الصحراء!

        وقد جسد البيان السياسي الذي أصدرناه كبريات هذه النقاط، كما جسدتها كذلك رسالتنا إلى بوليزاريو إثر غزوة الولي التي توفي فيها رحمه الله، وعنوانها: "بوليزاريو ثورة أم عدوان؟" وكذلك موقف الرفض الحازم والمقاومة التي واجهنا بها انقلابيي يوليو وجميع طبعاتهم الرجعية!

وبتماديها وحلفائها في انتهاج خط سياسي خاطئ ومدمر نجحت بوليزاريو وحلفاؤها في إسقاط موريتانيا من الداخل، رغم مقاومة جيشها وشعبها الأسطورية، وأطاح اليمين المتآمر مع العدو بالسلطة الوطنية وأقام محلها ديكتاتورية عسكرية دموية انهزامية وخائنة للوطن، هب أحرار موريتانيا وشعبها لمقاومتها والقضاء عليها، فامتلأت بهم السجون والقبور، وضاقت بهم المنافي، وظل النضال مستعرا إلى أن أطلع فجر الحرية والكرامة! وخلال هذه الحقبة القاسية من تاريخ بلادنا انقطعت صلاتنا مع سفارة الأرز، وإن ظلت أرزات شامية داخل موريتانيا تكلؤنا بفيئها الأثيل (ينظر مقال "مواويل من الشرق").

وبسقوط موريتانيا المستقلة ما لبثت أن تمزقت وسقطت بوليزاريو أيضا؛ ثم انزلقت الجزائر - مع الأسف- في دوامة الإرهاب والحرب الأهلية! وقد استمر التيه الموريتاني الصحراوي لعدة عقود جاءت على الأخضر واليابس!

... ونهضت موريتانيا من كبوتها الأليمة بفضل الله وشجاعة وحكمة أبنائها فجر الثالث أغسطس 2005 وتعافت  من تيهها وتقدمت بحمد الله؛ بينما لا يزال التيه الصحراوي مستمرا رغم بهاظة الثمن الذي دفعه الصحراويون! والأدهى من ذلك تحقق نبوءة الولي رحمه الله؛ إذ قال: "لقد غرقنا ولن نغرق وحدنا"! فها هي ذي  ليبيا قد غرقت، ويخشى أن تغرق الجزائر - هي الأخرى- ما لم تتضافر جهود الشعب والجيش فيها لانتشالها من درك التيه!   

23. مايو 2019 - 9:07

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا