لقد ظل الاقتصاد الموريتاني مُختزلا، بشكل عملي حتى الآن، في «اقتصاد ريعي» معتمد بالأساس على تصدير المواد الأولية الخام، مما يحُد من القيمة الداخلية المضافة ويحد من الانعكاسات على التشغيل، علاوة على التأثر الشديد بتقلبات الأسعار في الأسواق العالمية وكذلك التقلبات في مستويات الإنتاج، نظرا لهذا الاعتماد الكبير على تصدير المواد الخام. أما رأس المال الوطني الخاص، من جانبه، فإنه ظل متّجها إلى حد كبير نحو قطاعات غير إنتاجية.
وللخروج من هذا الوضع، فإنه يتحتم على الدولة أن تتبنى استراتيجية ناجعة لتنويع الاقتصاد، وأن تُحدث مناخا يشجع على المخاطرة المدروسة، ويهيئ الظروف لمزيد من جاذبية الاستثمار في القطاعات الإنتاجية.
صحيح أن الحكومة أعدت «استراتيجية النمو المتسارع والازدهار المشترك « التي تم العمل عليها بإيعاز وتحفيز من البنك الدولي، والتي تسمح للسلطات أن تدفعَ بوجود استراتيجية وطنية للتنمية على المدى البعيد.
غير أنه ينبغي استخلاص الدروس من الاستراتيجيات والبرامج السابقة (استراتيجيات الحد من الفقر) والتي كانت فعاليتها عند التنفيذ محدودة للغاية، نظرا للعديد من الأسباب، نذكر منها ضعف القدرات الفنية ونقص الموارد المالية، إضافة إلى ضعف الحكامة الاقتصادية وإلى الانفصام الحاصل بين البرمجة والتنفيذ، حسب تقييم البنك الدولي نفسه.
و يجدُر الاعتراف، في الوقت نفسه، أن ضعف الرقابة لدى المجتمع المدني ومن لدن الإعلام المحلي، بلغ مبلغا بحيث يُكتفى غالبا بالإعلانات والتدشينات، وبالكم على حساب الكيف، وذلك في أغلب القطاعات. وهكذا شهدنا انتشار «مخططات عمل» هي أقرب أحيانا للدعاية منها إلى العمل المحسوس. وذلك كله، إنما يشى بعقلية الازدراء التي تطبع، في بعض الأحيان، موقف السلطة والنخب من المواطن البسيط.
إن موريتانيا تستحق اليوم، تغييرا عميقا في موقف وتعامل الحكام إزاء عامة الشعب. كما تستأهل أيضا بدائل جدية عن «استراتيجيات التبرير»، تلكم الأدوات السطحية الذرائعية التي ينصبّ هدفها على تلبية اشتراطات المؤسسات النقدية الدولية من أجل الحصول على قروض جديدة من المموّلين.
فالحاجة إذن ماسة إلى استراتيجية أصيلة ودافعة، تأتى ثمرة عمل جاد وعميق وعن شورى وطنية موسعة حول أهداف وأولويات التنمية.
ويجب أن يتم تفصيل هذه الاستراتيجية وتنزيلُها بالشكل الأمثل على المستوى القطاعي، عبر مخططات عمل واقعية.. وفوق كل شيء، أن تتولى تسييرها فرق تتمتع بالكفاءة والنزاهة والإخلاص. وينبغي أيضا تنزيلها على المستوى الجهوي، وأن تتم مساعدة كل من المجالس الجهوية التي تم إنشاؤها مؤخرا، على اعتماد مخطط تنموي جهوي خاص به ومتسق في الوقت نفسه مع الاستراتيجية الوطنية.. على أن يتم إمداده تدريجيا بالوسائل اللازمة لوضع مخططه التنموي موضع التنفيذ.
ولن يمكن لمثل هذه التوجهات أن تؤتي أكلها إلا في إطار « اقتصاد- سياسي» خاص بنا، يأخذ بعين الاعتبار خصوصياتنا ( الإنسانية ، الجغرافية ، الاجتماعية والتاريخية)، مما يسمح لموريتانيا أن تحدد أولوياتها بكل استقلالية، وأن تختار المحددات المُثلى لتوزيع الاستثمارات العمومية، مع التحكم في التوازنات الاقتصادية الكبرى. نريده «اقتصادا-سياسيا» محتفظا بالإطار الليبرالي وما يُتيحه من حريات اقتصادية، لكنه يرفض جشع «الرأسمالية المتوحشة»، ويُكرس لأطروحة تنموية ينتفع بمقتضاها جميع المواطنين من ثمار النمو الاقتصادي.
ويُمكن اقتراح الخطوط العريضة التالية للاستراتيجية المطلوبة :
أولا- تنويع الاقتصاد وتعزيز القدرة التنافسية للبلد وكذا تقوية الأداء الاقتصادي بما يساعد على الحد من الاعتماد على الخارج. ونظرا إلى تأخر موريتانيا في مجال البُنى التحتية (الصحة والتعليم، إصلاح محاور الطرق الكبرى، الأشغال الشاطئية ، وغيرها )، فينبغي انتهاج سياسة لتحفيز الاقتصاد عبر «الانتعاش بمشاريع البُنية التحتية».
ثانيا- العمل على كسب الرهان المتمثل في خلق القيمة المضافة، وبشكل خاص عبر التوجه نحو المزيد من تحويل ومعالجة الموارد الطبيعية. وينبغي هنا تشجيع الاستثمارات الصناعية لتلبية قدر متزايد من الاحتياجات المحلية، غذائية أو غيرها.
ولتحقيق هذا الهدف، سيكون من الضروري تسهيل الولوج إلى الطاقة وإلى رأس المال لفائدة الصناعات التحويلية، كما يجب أيضا العمل على تكوين وتدريب عمالة ماهرة وذات كفاءة.
ثالثا – تشجيع المبادرات الشبابية، وتسهيل دمجهم في القطاعات الإنتاجية كمثل الزراعة أو صيد الأسماك، اللذين يشكلان قطاعين حيويين لموريتانيا، يجدُر أن يجد فيهما الشباب فرصا متجددة للتوظيف في مواقع إنتاجية، وأن يلعب دورا محوريا لتطويرهما بشكل مستدام.
رابعا – تحسين الحكامة الاقتصادية، خاصة عبر بناء وتعزيز القدرات في مجال التصميم والتخطيط فالتنفيذ. وكذا تقوية قدرات المتابعة والمراقبة وتقييم السياسات العمومية. ويتطلب ذلك اعتماد آليات وأدوات مساعدة على اتخاذ القرار، ترتكز على إنتاج إحصائيات ذات جودة استنادًا إلى أنظمة المؤشرات ذات الصلة.
خامسا- إعطاء دفعة قوية لتطوير قطاع الصيد، وتسريع إدماجه في الاقتصاد الوطني.
من أجل أخذ حصة أكبر من الصيد في جنب القوى الأجنبية (الصين، الإتحاد الأوروبي…) التي تصيد في مياهنا، سيتعين علينا توسعة وتحديث أسطولنا الوطني (سفن الصيد الشاطئي وأعالى البحار).
تسريع « مرتنة» سلسلة القيمة في أنشطة الصيد وتثمين المنتجات، عبر وضع إجراءات تحفيزية ( ضريبية، تسهيلات لوجيستية، الخ..) من أجل تشجيع الإستثمار.
سادسا- العمل على اندماج أقوى وأسرع للقطاع النفطي داخل الاقتصاد الوطني، واستعماله كقوة دافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد :
1- ينبغي إعادة النظر فى النهج الريعي الذى لا يزال سائدا في إدارة الموارد (مهما كانت متواضعة، كما هو الحال في الصناعات الاستخراجية الأخرى)، وذلك على الرغم من إنشاء الصندوق الوطني لإيرادات المحروقات.. كما ينبغي معالجة ضعف الاندماج والتكامل بين القطاع البترولي وباقي الاقتصاد الوطني.
لقد بدأ القطاع يتحرك في ظل سياق جديد مع الاكتشاف الأخير لموارد الغاز الكبيرة وإطلاق مشروع تطوير حقل GTA (السلحفاة الكبيرة آحميم) على الحدود البحرية مع السنغال، حيث هنالك اهتمام متجدد من شركات النفط متعددة الجنسيات، بعد مجيء شركةBP البريطانية، وهو ما يتجلى فى التواجد القوي لكبرى شركات النفط التي انجذبت للاكتشافات الجديدة والإمكانات الواعدة في أعماق المياه البحرية الموريتانية.
2 – إن هذا السياق الجديد، إن لم يتطلب إعادة صياغة أو إجراءَ إصلاح شامل، فإنه يستدعي على الأقل تجديدا للسياسة الوطنية للمحروقات والتي يجب أن تجعل من المساهمة الفعالة في الأنشطة النفطية، وتطوير الإنتاج والإدارة المستدامة للمداخيل، رافعاتٍ حقيقيةً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. ذلك أن رفاهية السكان والأجيال المقبلة ستعتمد على إدارة مستدامة وشفافة للموارد، تجمع بين الصرامة واحترام البيئة.
وهكذا، ينبغي أن تفيدنا الخبرات المكتسبة لنتمكن من تجنب مآزق وخيبات الاقتصاد الريعي، ولنحرص على إدارة الموارد بطريقة شفافة حقًا وعلى الاستخدام الرشيد للمداخيل بهدف تمويل التعليم ودعم جهود الحد من الفقر وتحفيز تنمية اقتصادية متعددة القطاعات.
3 – ولكي تُفلح هذه السياسة في ضمان عائدات مُثلى، ولكي يُثمر استغلال الغاز أحسنَ الانعكاسات على اقتصاد البلاد ونحصل على أعلى العوائد، سيتعين علينا التخلي عن النهج الريعي الساذج، وعدم التركيز فقط على الإيرادات المباشرة الناشئة عن البنود التعاقدية وخاصة تلك المتعلقة بتقاسم الإنتاج، وبعبارة أوجز، أن تسعى جديا لإدماج قطاع النفط في الاقتصاد الوطني.
ويتطلب ذلك تصميم وتنفيذ استراتيجية لتطوير «المحتوى الوطني» من أجل زيادة الفوائد الإجمالية، ليس فقط من خلال تشغيل الموظفين واليد العاملة الموريتانية بواسطة المشغلين الأجانب (شركات الاستغلال الكبرى) ومقاوليها من الباطن، ولكن أيضًا من خلال المساهمة المباشرة للشركات الموريتانية في الصناعة البترولية. وبعبارة أخرى الاستفادة بأقصى ما يمكن من كافة أشكال القيمة المضافة المتصلة باستكشاف أو استغلال حقول النفط والغاز.
ويمر ذلك طبعا بتحسين مستوى المهارات المتوفرة والقدرات المحلية من حيث الموارد البشرية المؤهلة والمعدات والوسائل اللازمة لتلبية احتياجات المشغلين والمقاولين من الباطن، والعمل على توفير المزيد منها استجابة للطلب المتزايد. ولذا، فإن الحاجة إلى تصميم وتنفيذ برنامج تكوين مهني واسع النطاق، تُسهم فيه شركات النفط والفاعلون المعنيون في مجال التعليم والتكوين المهني وأربابُ العمل الموريتانيون، تُعتبر ضرورةً بديهية.
4 – من شأن استراتيجية «المحتوى الوطني» التي تهدف إلى إدماج قطاع النفط في الاقتصاد الوطني، أن تسمح ببروز شركات موريتانية متنوعة التخصصات، قادرة على المشاركة بالكفاءات والمهارات الفنية اللازمة، وأخذ موقعها في هذه الصناعة الجديدة، ليس فقط من حيث الخدمات اللوجستية المحلية، ولكن أيضًا على مستوى مجموعة كاملة من الخدمات على طول سلسلة القيمة بأكملها…
ولدعم هذه الاستراتيجية، فإن اعتماد قانون حول «المحتوى الوطني»، على غرار العديد من البلدان المنتجة، سيمكّن من وضع المبادئ بوضوح وسيمكّن أيضًا من تأطير الجهود وتنظيم المقاربات الهادفة إلى «مرتنة» أكبر قدر ممكن من حلقات سلسلة القيمة في صناعة النفط والغاز، بطريقة تدريجية ومنهجية بُغية تطوير واستدامة نسيج صناعي حقيقي في البلد.
5 – تكريس الغاز في موريتانيا كـ»وقود لمرحلة الانتقال الطاقوي»
يتحتم، في ضوء الموارد والإمكانات الجديدة، أن يوضع مخطط توجيهي أو «خطة غاز رئيسية» لتكريس وتنويع استخدامات الغاز الطبيعي في موريتانيا، بوصفه الطاقة الأنظف من بين جميع أشكال الطاقة الأحفورية؛ وعلاوة على ذلك فهي طاقة موثوقة وبأسعار معقولة. وينبغي أن تمضى «خطة الغاز الرئيسية» هذه أبعدَ من الدراسات السابقة، وتخرج بتوصيات محددة تغطى، ليس فقط محور المبيعات للخارج من خلال تصدير الغاز الطبيعي المسال، وإنما أيضًا كافة سُبل الاستخدام الممكنة محليا. وستتضمن الأولويات حتما توليد الكهرباء والاستغناء النهائي عن توليد الطاقة بالوقود المستورد، وكذلك استخدام الغاز الطبيعي المضغوط (CNG) في المواقع الصناعية، وإيصاله لمناجم التعدين لاستخدامه في «تكوير الحديد»، ولِم لا في مجال النقل أيضا.
كما يجدُر أن لا تقتصر الاستفادة من الغاز على النقاط السابقة. بل يمكن النظر في استخدامات أخرى مع تزايد موارد الغاز، ونذكر على سبيل المثال إنتاج الأسمدة وذلك عبر استخدام الغاز لإنتاج حامض الفوسفوريك، ومن شأن ذلك أن يُمَكن، عند استغلال خام الفوسفات في جنوب البلاد، من إنتاج الأسمدة الفوسفاتية، مما سَيَفي باحتياجات الزراعة المحلية مع تصدير الفائض إلى بلدان أخرى في شبه المنطقة.
وينبغي الحرص، أخيرا، على استفادة الزراعة، في منطقة النهر، من طاقة أرخص وأكثر توفرًا بالنسبة لأنشطة الري والحصاد وتثمين المحاصيل، وبالتالي إعطاء دفعة قوية للتنمية الزراعية في البلاد.
مهندس واستشاري موريتاني مقيم في باريس