احتضنت مقاطعة أطار عاصمة ولاية آدرار النسخة الثالثة من البرنامج الرئاسي السنوي "لقاء الشعب"، وسط جدل واسع حول أهمية هذا البرنامج وقيمته، ومستوى أداء المشاركين فيه: رئيسا، وصحفيين، وسائلين، ومتفرجين، ومطبلين، وناقدين مستخفين..
وكعادة كل حدث سياسي في بلادنا يستحيل على المتابع أن يسجل بصدده موقفا واحدا وسطا؛ حيث ينقسم الناس بشأنه إلى متطرفين حقيقيين، وحديين متعصبين: بين مهلل مجل، ومستهجن مخل!!
ولست أدري إلى أي مدى يمكنني الخروج من هذه الدائرة المتطرفة لإعطاء رأي موضوعي يحاول اكتشاف المفيد في هذا الحدث والضار فيه؛ دون "تقديس" ولا "تفليس".
أعتقد أنه (من حيث المبدأ) لا يمكن لأي منصف أن لا يعترف بالقيمة السياسية الكبيرة لفكرة هذا الحدث وأهميتها النظرية في تجذير الممارسة الديموقراطية والإسهام في محو هالة القداسة الملقاة على كاهل كل حاكم (خصوصا في بلداننا العربية) والتي تجعل منه مخلوقا علويا فوق المساءلة وفوق النقد، وتجعل المواطنين في مواجهته خدما وحشما وجوقة ترفيه وتعظيم وتقديس لوجه مرضاته الغالية، لا أقل ولا أكثر!!
هذا من الناحية النظرية التي تؤكد أن فكرة هذا البرنامج هي إبداع موريتاني متميز وفريد، ولكن العبرة تكون في التطبيقات والآثار المترتبة عليها إيجابا أو سلبا.. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن عبارة "لقاء الشعب" هي عبارة لا تخلو من تضليل مكشوف؛ حيث إن الرئيس لم يلتق بشعبه في هذا البرنامج، ولم يسائله شعبه وإن كان "احتفل" به و"احتفى"، في حين تولى مساءلته صحفيون اختارهم هو أو اختارتهم أجهزته الوصية، وربما اختارت لهم أسئلتهم كما قد يتبين لنا لاحقا!
بدأ البرنامج بسؤال عام حول المنجز من البرنامج الانتخابي الرئاسي، ليتخذ الرئيس من الإجابة عليه فرصة لتقديم جملة أرقام صماء شاهدة على مستوى التقدم المحرز على أكثر من صعيد بشهادة "المواطنين المخلصين" وبعض المؤسسات الدولية..
وإذا كان من الصعب علينا التعرف على "المواطنين المخلصين" الذين شهدوا بذلك (إذ المفروض أن كل المواطنين مخلصون)، فإن المقصود بالمؤسسات الدولية هو البنك الدولي وصندوق الدولي كما أو ضح الرئيس ذلك، وهما مؤسستان معتبرتان رغم الاختلاف القائم حول أهدافهما وأدائهما وأهميتهما في تقييم ودعم اقتصاديات الدول النامية التي لم تفلحا في تطوير أي منها خلال عشرات السنين من التدخلات والإملاءات والتقارير المشجعة والمتغزلة في عيون اقتصاديات هذه البلدان البائسة!!
لكن مشكلة الأرقام (رقم أهميتها وصدقيتها إذا صحت) أنها كانت أرقاما تتلى على مسامع "الشعب"، وفي "لقاء الشعب"، والشعب هو بالأساس عامة الناس ودهماؤهم الذين لا يفهمون لغة الأرقام ولا يولونها أي اهتمام.. إنهم بشر "واقعيون" يدركون الواقع الذي يعيشونه ويحسونه ويفهمونه، دون أن يهتموا لكثير من المفردات المترفة من قبيل: "التوازنات الاقتصادية"، و"ميزان المدفوعات"، و"الفاض التجاري"، و"الاحتياط من العملات الصعبة"... إلى غيره من المصطلحات التي قد يفهمها قلة من الاقتصاديين النجباء، وبالقطع أن "الشعب" لا يفهمها، وأن الحديث عنها يكفي لإصابته بالغثيان والنعاس..
هذا لا يعني أن "الشعب" لا يفهم شيئا، بل يعني أنه يفهم أهم شيء؛ ألا وهو واقعه المعاش: (تكلفة قوته اليومي، قيمة عملته الوطنية، أسعار حاجاته الأساسية، مداخيله اليومية والشهرية والسنوية) إلى آخره.. مما لم يتطرق الرئيس إليه في حديثه مع شعبه.. وهو أمر غريب..
وكعادته؛ طمأن الرئيس الشعب على أن خزائن الدولة ملأى، دون أن يتذكر أن الشعب يستوي عنده أن تكون تلك الخزائن فائضة عن طاقتها الاستيعابية أو خاوية تماما على عروشها، ما دامت مفاتيحها ليست بيده، وما دام لا يعرف كيف ينعكس امتلاؤها على ظروف حياته وأوضاعه المادية.. ولم يهتم الرئيس بأن يشرح لشعبه شيئا من ذلك، وتركه في حيرة العاجز عن معرفة كيف تكون خزائنه ملأى، وجيوبه خالية وبطونه أخلى!!
وكان حريا ب"رئيس الفقراء"، أن يدرك أكثر من غيره أنه حيث يوجد الفقر توجد الأمية ومحدودية الفهم، وبالتالي كان عليه أن يخاطب الناس بما يفهمون، ويتكلم لهم عما منه يتألمون ويشتكون..
ثم، إنه كان حريا ب"رئيس الفقراء" ومتبع سياسية ترشيد النفقات، أن لا يجعل من هذا البرنامج مناسبة لتتحمل فيه الدولة والمواطنون من النفقات والتكاليف ما لا قبل لهم به ولا ضرورة إليه؛ فقد سبق البرنامج حراك سياسي وحزبي وإداري مكلف وغير مسبوق، وتسابق الناس في الإنفاق على "إنجاح الحدث"، وبددوا أموالا طائلة في استجلاب الناس من مختلف مقاطعات الولاية؛ بل ومن جميع ولايات الوطن، ليغص بهم ملعب أطار دون هدف ولا غاية إلا أن يثبت الرئيس لنفسه أن المواطنين يحبونه ويحبون رؤيته!! وإلا فما قيمة الآلاف الذين حضروا البرنامج؟ هل سمعوا من الرئيس شيئا لم يسمعه باقي المواطنين في أرجاء الجمهورية عبر البث المباشر للإذاعة والتلفزيون، أم أهل استمع هو لهم بمناسبة نقلهم إليه لإضفاء طابع كرنفالي على مجرد مقابلة صحفية، لا أقل ولا أكثر..
هل كانت قيمة ونتيجة هذا البرنامج ستنقص لو اكتفى الرئيس بزيارة مبنى التلفزيون بالعاصمة واستمع للصحفيين فيه؛ دون أن يكلف نفسه ولا غيره عناء أكبر من عناء التنقل من إحدى مقاطعات العاصمة إلى دار الإذاعة أو التلفزيون؟!ّ!
ما معنى رسالة التهنئة التي وجهها (مثلا) رئيس حزب الاتحاد لكل الذين ساهموا في إنجاح البرنامج: من حزب حاكم، وائتلاف أغلبية، وسكان آدرار... وهل يعقل أن يرتبط نجاح مقابلة صحفية بأكثر من طرفيها: الصحفي الذي يسأل، والضيف الذي يجيب؟؟!
هذه الزوائد غير المرغوبة التي تحولت إلى شجرة تحجب غابة "لقاء الشعب"، أفقدت الحدث كثيرا من قيمته النظرية التي أشرنا إليها آنفا، وأخرجته من سياقه الطبيعي المقبول إلى سياق آخر مختلف تماما: دعائي وسياسي لا لزوم له!
ومن المآخذ المسجلة على حلقة أطار أيضا أن المواضيع التي تم التطرق إليها كانت قليلة الجاذبية والاهتمام لدى أغلب المواطنين، وأن وقتا كبيرا من البرنامج استهلك في مداخلات غير ذات معنى كمداخلة أحد المواطنين من أمريكا والتي تحولت إلى مرافعة للدفاع عن النظام والشهادة له، وكان حريا بالزميل والصحفي المقتدر مختار عبد الله أن يقاطع صاحبها ويوضح له أن البرنامج فرصة لسؤال الرئيس وليس للشهادة له؛ مع الاحترام والتقدير لأنصاره ولحقهم الطبيعي في التعبير عن رأيهم، لكن في مناسباته وفي المنابر المخصصة له!
كما كان حريا بزميلنا الطيب والخلوق أن يعيد للرئيس نص أو مضمون ما سمعه الجميع من أحد المتدخلين والذي قال إن ما قاله الرئيس ليس صحيحا بالمطلق؛ رغم الأسلوب غير الأخلاقي الذي تكلم به ذلك المتدخل؛ غير أن مضمون رأيه كان يجب أن يسمعه الرئيس.. وكان غريبا قول مدير البرنامج إن المتدخل اختار أن يقطع الخط عن نفسه! وهل يتدخل الناس ليقطعوا مداخلاتهم بأنفسهم؟!
وأغرب من كل هذا تجاهل الزملاء الصحفيين لأهم المواضيع الحساسة كموضوع التعليم، وإضراب الأساتذة، والعقوبات الجماعية المتخذة ضدهم، ومطالبهم بزيادة الأجور ونظام الأسلاك.. وأخشى أن يكون لإهمال الجميع (بمن فيه الرئيس نفسه) لموضوع التعليم آثار سلبية على السنة الدراسية القادمة نظرا لما خلفه من استياء واسع في أوساط الأساتذة والمعلمين: المضربين منهم وغير المضربين!
ولقد نسي الصحافة كل شيء حتى أنفسهم؛ فلم يتطرقوا لمشاكل قطاعهم التي غابت تماما عن هذه الحلقة.. ولهذا السبب ربما سقط زملاؤنا في عين الرئيس؛ فلم يكلف نفسه عناء التعليق (مجرد التعليق) على طلب الزميل عمير منح "لفتة" تقدير للراحل حبيب محفوظ!.
وغابت براعة الصحفي الذي يستخرج من إجابات محاوره أسئلة أخرى أكثر عمقا وإرباكا؛ خصوصا عندما أكثر الرئيس من حديثه عن المفسدين ردا على انتقادات المعارضة؛ حيث كان يفترض أن يجد من ينبهه إلى أن في منسقية المعارضة أحزابا لا مظنة للمفسدين فيها كحزبي "تواصل" و"حاتم" مثلا (لا حصرا)، وهما الحزبان اللذان كان أحدهما داعما للرئيس بينما تقرب الآخر إليه كثيرا؛ فما الذي منعه من التفاهم معهما وسهل عليه التفاهم مع أحزاب وقوى أخرى كثيرة تغص بالمفسدين الذين لا يخطئ أحد التعرف عليهم بأسمائهم وصفاتهم وقصورهم وأموالهم؟؟!
وأكثر من ذلك؛ شهدت نهاية الحلقة إحجاما واضحا عن طرح الأسئلة، وسمع أحدهم وهو يرد على مدير البرنامج بأنه لم يعد عنده سؤال يطرحه!! وهل تنضب الأسئلة عند الصحفي الحق؟ اللهم إلا إذا كان المقصود أن الأسئلة الملقنة قد اكتملت، وأن صلاحية طرح أسئلة خاصة دون الرجوع للجهات الوصية ليست ممنوحة لأحد! الله أعلم؟.
ومع ذلك كانت للحلقة نقاطها المضيئة، ففضلا عن فكرة البرنامج نفسها؛ فقد تألق الرئيس بيجل ولد هميد في مداخلته؛ خصوصا عندما نبه إلى أنه هو من انتقد الحملات السياسية للوزراء، مصرا على موقفه، وموضحا أنه معارض مسؤول يعرف كيف يعارض وكيف يحاور، وكيف يحترم المؤسسات الدستورية وفي مقدمتها مؤسسة رئاسة الجمهورية، فضلا عن ملاحظاته الاقتصادية الذكية؛ مع أننا تمنينا لو أنه شرح لنا الموانع التي حرمته من الاستفادة من أفكاره تلك خصوصا عندما كان وزيرا للصيد في فترة سابقة!.
وتألق الرئيس محمد ولد عبد العزيز في عدد من ردوده مثل إجاباته حول قضية السنوسي، وبطاقات الأجانب، والحرب على الإرهاب.. والتي ظهر فيها جميعا بمظهر رجل الدولة المصر على احترام سيادة بلده ومصالحه واستقلالية قراره؛ فضلا عن وضوح حجته في عدم الاكتراث لدعوات الرحيل، وإن كان تلميحه لعجز المعارضة عن ترحيله بأسلوب الانقلاب تضمن مفاخرة ضمنية فجة بإتقانه هو لمثل هذه الأساليب!!.
كما سطع نجمه عندما دعا أحد الشباب المعارضين للصعود إليه على المنصة كي يقول ما يريد بكل حرية وعلى رؤوس "الأشهاد"، قبل أن يخفت ذلك النجم بسبب تدخل الحرس الرئاسي الذي قرر غير قرار الرئيس ونفذه؛ فاعتقل ذلك الشاب ومنعه من اعتلاء منصة البرنامج؛ دون أن يتابع الرئيس طلبه، أو يلزم حرسه بتنفيذ أوامره!!
ويطول البرنامج وتتعدد مخارجه ومداخله؛ فنكتفي بهذا القدر من الملاحظات التي لا نعلم أن أحدا من أولي الأمر يمنحها قيمة ولا اعتبارا، كما نعلم أنها لن ترضي مجتمع التطرف الحدي، حيث سيثير نقد الرئيس غضب أنصاره ومتملقيه، كما ستثير الشهادة له سخط خصومه ومنتقديه.. ولكن هكذا رأينا رأيا بدا لنا صوابا يحتمل الخطأ... و"إنما العلم عند الله"..