حط بنا الورد التروايحي الليلة في ظلال سورة مدنية لها خصوصيتها المطلقة ، وهي أنها الوحيدة التي سقطت البسملة من أولها ، على احتمالات أنها جزء من موضوع الأنفال قبلها ، وإن كانت تلك من المئين ومن أوائل مانزل وهي من المثاني ومن آخر القرءان ، أو أنها كانت تعدل البقرة ، ونزلت بالسيف ليس فيها أمان ، أم جاء ترك البسملة من أولها مناصفة وتقريبا لهوة الخلاف بين من كتبوا المصحف في خلافة عثمان وكانوا اختلفوا في شأنها ، فمنهم من قال : براءة والأنفال سورة واحدة ، بينما قال بعضهم هما سورتان. فتركت بينهما فرجة مراعاة لكل من الأقوال حتى رضي الفريقان بذلك .
نزلت التوبة البالغ عدد آيها مائة وتسع وعشرون ءاية في غزوة تبوك وبعدها ، حيث يلاحظ في مقاطع سياق السورة أن بعضها متأخر في النزول عن بقيتها، وإن كان قد مهد له " مجيئا " في مقدماتها ، لأن عملية ترتيب الآيات في السور تتم وفقا للتوجيهات النبوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي فهي أمر توقيفي منه عليه الصلاة والسلام . حملت السورة عدة أسماء منها : الفاضحة - قال بن عباس - مازال ينزل ومنهم ومنهم ، حتى خفنا ألا تدع أحدا . لأنها تضمنت إنهاء العهود التي كانت قائمة بين المسلمين والمشركين في ذلك الوقت ، مبينة المراحل الزمنية التي مر بها انهاء ملف العهد ، من بعد أربعة أشهر لماكانت العهود مطلقة ، أو" نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم " أو كان بعد انتهاء الأجل لمن سبقت لهم مقيدة ولم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا . حتى توصلوا إلى النتيجة النهائية وهي إنهاء العهود مع المشركين في الجزيرة العربية ، ونقض مبدإ التعاقد معهم بالبراءة منهم كمشركين يستنكر أن يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله . ثم تمضي السورة في تبيين وقائع الأحداث ومسار المفاوضات التي منعت مخرجاتها على المشركين الطواف بالمسجد الحرام أوعمارته بأي شكل من الأشكال خلافا لماكان عليه العهد المطلق بينهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليأتي الأمر " أن أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين " ، ومن خلال ذلك نلمس أنه كانت هناك معاهدات وتحالفات مؤقتة بين المؤمنين والمشركين ، ساهم في مناخها الزمني عدم انسلاخ الأشهر الحرم التي يمنع فيها القتال والحصار وأن يقعد المسلمون للمشركين في مرصد " طريق " يترقبونهم فيه ويرصدون حتى يتوبوا عن الشرك ويدخلوا في جملة المؤمنين ويقيمون الصلاة في أوقاتها ويؤتون الزكاة المفروضة ، وحينئذ تتدخل الأوامر الربانية لإخلاء سبيلهم ( والله غفور رحيم ) .
تتوالى ءايات السورة بعد ذلك لتتحدث عن الإرتباط العضوي لخشية الله تعالى التي هي إحدى دعائم الإيمان ، وعن إعمار المساجد والإيمان الكائن لدى معمرها ( إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الآخر..) واذارأيتم الرجل يعتادو المساجد فاشهدوا له بالإيمان ، فعسى أولئك أن يكون من المهتدين ، ليعرج القرءان على افتخار - ماقيل- إنه العباس بسقاية الحجاج ، وشيبة بعمارة المسجد الحرام، وعلي كرم الله وجهه بالإسلام والجهاد ، فصدق القرءان عليا لأن ( الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ) .
افتخرت ثلاثة على السري *** عباس شيبة أريد العنبري
علي بالجهاد والإسلام *** وبالسقاية أبوه السامي
وبالعمارة غدا مفتخرا *** ثالثهم فنزل الذي ترى
فكان ذا المنزل حكما لعلي *** وقيل بل سبب هذا المنزل
أن أسر العباس يوم بدر *** فليم في بقائه في الكفر
فقال نحن نعمر البيت الحرام *** ونحن هم ساقوا الحجيج كل عام
نقري الضيوف ونفك العاني *** جعل ذا كالعدل للإيمان
جهل الشرائع مضر يجهل *** أن سوى الإيمان ليس يقبل
وبعد ذا عام الرمادة عمر *** أصبح بالعباس يستسقي المطر
ذلك فضل الله يؤتيه لمن *** يشاء فالإله واسع المنن .
بعد ذلك يدخل سياق السورة على خط التذكير بالنصر للمؤمنين بقدرته ومعونته في مواطن كثيرة كوقعة بدر والحديبية وخيبر وفتح مكة ، وقيل إن المواطن التي نصرالله فيها الإسلام ثمانون مواطنا، ويوم حنين إذ " أعجبتكم كثرتكم " وقلتم : لن نغلب اليوم عن قلة ، وكان المسلمون يومها اثني عشر ألفا ، والعدو أربعة آلاف ( فلم تغن عنكم شيئا ) لأن النصر لايأتي بكثرة العدد إنما هو من عند الله الذي أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، ونادى فيهم : يامعشر الأنصار ، يامعشر المهاجرين ، ياأصحاب سورة البقرة ، حتى رجع المسلمون إليه وأنزل الله تعالى جنودا لم يروها من الملائكة وعذب الذين كفروا بالقتل والأسر ..وتاب ( من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ) .
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وتضاعف لنا ولكم الأجر.