رغم الأزمات السياسة والاقتصادية والاجتماعية التي تغرق فيها موريتانيا، يصر نظام 78 على الاستمرار في نفس اللعبة التي رسمها الآباء المؤسسون، غير مكترث بالاحتقان الاجتماعي وواقع الناس البائس، ولا حتى بما يحدث في البلدان المجاورة. وهي العقلية الجامدة التي ظلت بعض النظم السياسية العربية متمسكة بها حتى عام 2011 في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وبقيت أنظمة أخرى تتشبث بها تحت ذرائع وشعارات أنها تمثل الاستثناء، لكنها كانت مخطئة تماما عندما تأكد أنها لم تكن استثناء، فتداعت مثل أحجار الدومينو واحدة تلو الأخرى، فسقط نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وقدم اعتذاره للشعب الجزائري وهو أحد رجال الثورة ويحوز على شرعيتها التاريخية، وهو كذلك مهندس المصالحة الوطنية التي أنهت "عشرية الدماء" أو الحرب الأهلية بعد انتخابه في أواخر التسعينيات، لكن ذلك لم يشفع له في عهدة خامسة؛ كما سقط نظام عمر حسن البشير الذي استولى على السلطة في السودان عام 1989 بانقلاب عسكري، وقسمت السودان في زمنه، وبعد سقوط نظامه أحيل إلى السجن، وكان ذلك جزاء له على تعنته واستهزائه بشعبه.
قبل هذه الحادثة بفترة قصيرة ظل النظام الجزائري، وبعض نخبه ومثقفيه يروجون أن الشعب الجزائري الذي عاش رعب "العشرية"، لن يقدم على إسقاط النظام وأن الجزائر تختلف عن تونس وغيرها. كما أقدم الرئيس البشير على زيارة بشار الأسد الزعيم السوري الذي شرد شعبه من أجل البقاء في الحكم، ولم يكن يتوقع بعد عودته أن شعبه لن يسمح له بإكمال أداء رقصته الأخيرة. الشعب الجزائري "الخائف" والذي فاتته موجة الربيع العربي عام 2011، وكذلك الشعب السوداني الآن يصنعان ربيعهم الخاص، إنها الموجة الخاصة بهما التي يتحدث عنها الجميع، وقد تكون أكثر نضجا وإبداعا، فنحن نشاهد رفض الشعب الجزائري وصاية العسكريين عليه، كما حصل في مصر بعد ثورة 25 يناير وقاد في نهاية المطاف إلى انقلاب 2013 العسكري؛ ونشاهد رفض الشعب السوداني استمرار المجلس العسكري في الحكم وإصراره على المطالبة بالحكم المدني.
إن كان القاسم المشترك بين الأنظمة التي انهارت في الموجة الأولى والثانية، هي أنها بالأساس ترجع في الأصل إلى الحكم العسكري المباشر أو غير المباشر، وكانت في معظمها من نمط أنظمة "سنحكمكم ما دامت الدولة باقية"، فقد حكم البشير السودان حتى بعد تقسيم البلاد ظل متمسكا بالجزء المتبقي منها، وانهارت الدولة في ليبيا واليمن بعد القذافي وصالح. أما الشعب الموريتاني المسالم وإن كانت فاتته الموجة الأولى والثانية، فليس استثناء، وهذا ما ينبغي أن يأخذه العقلاء في الحسبان قبل فوات الأوان، في زمن لا تضرب فيه الشعوب موعدا مع إسقاط حكامها، وهو أمر بات ديدنها، ولا أحد بإمكانه التنبؤ بتغيُّر مزاج الجماهير والحشود التي تتقن فن طقوس الشارع وأدائه.
لقد تعود رجال نظام 78 في موريتانيا، وأقصد بنظام 78 النظام الذي كرسه انقلاب 1978 والذي لا زال يعيد نفسه عبر أشكال وصور متعددة لا تغير من طبيعة النظام سوى إزاحة رأسه، سواء عبر الانقلاب العسكري، كما حدث مثلا أعوام 79، 80، 84، 2005، 2008، أو عبر الأسلوب الجديد لتغيير رأس النظام من داخله سلميا، وهو أسلوب حتى لو توهم البعض أنه سيحل الأزمة الحالية التي في عقدها الأول، لم يعد ينطلي على أحد، وشعوب اليوم تدرك عن جدارة الفارق بين التداول السلمي على السلطة وبين توريث السلطة، وبين الانقلابات العسكرية الإصلاحية وتلك التي لا يراد منها سوى الاستيلاء على السلطة بالقوة والبقاء فيها بالقوة. لقد فشل النظام الحالي ورجالاته في حل الأزمة السياسية، أزماته، وأزمات غيره، ويروم هؤلاء توريث تلك الأزمات لخليفة النظام القادم الذي لا شك أنه سيورط فيها توريطا، عاجلا أم آجلا كما يعلمنا زمن الشعوب الراهن. فالأزمات السياسية والاجتماعية لا تحل بالأزمات، وموريتانيا لا تعاني من أزمة سياسية فقط تتعلق بشرعية نظم، حتى تحل بتغيير رأس نظام منتهية ولايته، وكان أولى بالجميع أن يذهب في اتجاه مصالحة وطنية شاملة اجتماعية وسياسية تلملم جراح المجتمع وتعيد للدولة هيبتها وللنظام.
بعد أحداث الحرب الأهلية في الجزائر المشار إليها سابقا، تراجع الجيش الجزائري كثيرا وهو جيش تحرير أنشأ دولة، عن أدواره التاريخية، فرشح رئيس مدني، على الأقل كان هذا ما ينبغي فعله في تلك المرحلة، احتراما لمؤسسة عسكرية عريقة، ولنخبة مدنية جديرة بأن تحظى بالقليل من الاعتبار والثقة. والمؤسسة العسكرية في الجزائر الآن تعرف ما لها وما عليها، وهو أن تحمي الدولة والنظام وليس أن تزاحم المدنيين في الحكم. أما نحن في "المنكب البرزخي"، لا شيء يتغير أو يتبدل النظام يجدد نفسه، والنخب المدنية الفاسدة تزمر وتطبل، إنها جديرة بهذه المكافأة ما دامت الدولة باقية.