انتهينا في المحور الأول من هذا الكتاب الرافد البيئي وقد ناقشنا فيه أحولنا البدوية
فنحن في الشكل بدو وفي المضمون الإسلامي حضر بداوة مثقفة تشكل استثناء تاريخي ينحبس مابين نهر السنغال ورمال الصحراء لكن فيه فجوات يجب أن تملأ وأن تعالج حتى تتلائم مع هذه البنية المزدوجة الإسلام والبداوة العالمة التي هي أبعاد بنيتنا الاجتماعية..
وهذا ما يتطلب دراسة وتحليلا من خبراء على معرفة تامة بخفايا المجتمع الموريتاني الفريد من نوعه؟‼
فعلى ظهور الجمال وتحت الخيام التي تخفق بها رياح الصحراء توجد مكتبات نادرة كما أنه يوجد أيضا معلومات كثيرة في صدور الصحراويين...
فكيف نعيد مراجعة دقيقة للملائمة بين أميتنا وعبقريتنا؟
هذه هي شنقيط موريتانيا التي تعيش تحت شعار الدولة الواحدة التي يجمعها الدين الواحد وتختلف أعراقها وثقافاتها مشكلة بذلك لوحة اجتماعية متعددة الثقافات..!!
وانتقالنا من البداوة الى الحضارة متمسكين بعاداتنا وقد رأينا أن هذه البداوة مثقفة عالمة في حين أن بداوة المجتمعات الأخرى بداوة تقليدية على حد قول شاعرنا:
ونحن ركب من الأشـراف منتظم *** أجـل ذا العصـر قـدرا دون أدنـانـاقد اتخذنا ظهور العيس مدرسة *** بهــا نـبــيــن ديــن الله تـبـيانا
لتذكير فهذا الكتاب تائه يبحث؟! دراسة نوعية جمعتني مع العلامة حمدا ولد التاه..
والآن الى المحور اللغوي:
امتازت الإنسانية عن غيرها بالإعراب المبين. ولعلها فيما امتازت به، كالبحر يمطره السماء، وما له فضل عليه لأنه من مائه. فبحر الألفاظ في حرف الإنسانية من مطر الجماد والنبات والحيوان بما أسلفت في الأيام الخالية. عجمها الإنسان فاستوت له على سوقها لغة معربة مبينة. ولعل من أفضل السبل لمعرفة تاريخ الحرف ما يؤرخ به الحرف نفسه (فسر كل شيء كامن فيه).
وما نعرفه من الألفاظ أنها هذا البيان الذي في لساننا وبين أيدينا.
والبحث عنها في غيرها نقل للتجربة من واقعها الحي إلى الفكر البحت وفصل للعملي عن النظري. ونأتي الأمور من أبوابها حين نبحث عن الشيء في الشيء ذاته.
إن من أكبر المصاعب التي تواجه من يريد جمع شتات المعاني التي تصدر عن لفظ واحد هو أصل لها جميعا لمعرفة علاقتها به ، أن يضيع هذا الأصل في أحد مجازاته التي تشبهه فإذا أريد بيان علاقة هذا المجاز بباقي المجازات تعذر ذلك وكاد يكون مستحيلا، وذلك كمن يريد التعرف على مشتقات الحليب باتخاذه الجبن أساسا لهذه المشتقات..
واللفظ حين تتعدد معانيه عن طريق المجاز يتلون بألوان لا حصر لها، ومعرفة وجه الشبه بين الفروع وأصلها تكون بتجريد هذه الفروع من ألوانها اللاحقة بها لتبقى دون لون إلا لون الأصل ، وهو لون في صورته المطلقة لا وجود له ، ووجوده في تقيده بإشارة سالبة أو موجبة.. إن كمية(+5) عكس كمية(- 5) والفرق بين الكميتين في الإشارة،فإذا كان اللون الأصل في مكان الإشارة من الكميتين (+5) و(- 5) فإنهما متماثلان عند حذفهما.
وهذا الوجود الضرورة يجد حريته في الإنسان وحده دون سائر الموجودات….
والحرية التي ائتمن عليها من دون الوجود كله لا وجود لها في هذا الوجود ، وليس لها وجود إلا فيه وحده ، ووجودها فيه على قدر وعيه لحركة الجدل في كل شيء ، وكل شيء لا يعيه فهو ضرورة ، فإذا وعاه فقد حرره ، أي حرر جزء من ذاته متناسبا في القدر والقيمة مع الجزء الذي حرره من الوجود حوله...
والفرد عند يونج(*) يحمل في نفسه ثروة داخلية هي نماذج إنسانية قديمة بعيدة في القدم توارثها عن الأجيال دون أن يدري بها ، لأنها نسج في نفسه منذ ميلادها. هذه النماذج الإنسانية أو هذه الثروة الداخلية ليست عامة بصفة مطلقة مثل الأفكار الفطرية عند ديكارت ، كما أنها ليست خبرة فردية شخصية ، كما هو الأمر عند فرويد، وإنما هي مبادئ نوعية ، أو معان جمعية تتباين في دلالتها ومظاهرها وتختلف في تطورها ومدى عمقها . أجل إنها نهاية نماذج قديمة ، موغلة في القدم منذ العصور السحيقة ولكنها قائمة عند جميع الناس تظهر أثناء الحلم أو اليقظة وتتخذ صورا ورموزا مقنعة ".(1)
وقد انقسم علماء اللسانيات والانتربولوجيا في أصل اللغة إلى نظريات وآراء مختلفة وهي اجتهادات لاتخرج عن دائرة التخمين والافتراض:
فمن قائل أنها تقليد للضجات الصوتية: نشأت بسبب محاكاة البشر لأصوات الطير والحيوانات والزوابع والأصوات المسموعة كدوي الريح وحنين الرعد، وخرير الماء، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونحو ذلك...
آخرون يقولون أنَّها ابتدعت واستحدثت على أيدي جماعة ممن يتمتعون بعقلية عالية. اجتمعوا ليصطلحوا على أسماء الأشياء، فوضعوا لكل واحد منها سمة ولفظا، وقد ذهب إلى هذا الرأي ابن جني وتبعه جان جاك روسو، وقد اعتبر الأخير اتفاق الحكماء ظاهرة من ظواهر (العقد الاجتماعي).
غير أن ابن جني يقف مذهولاً أمام سحر اللغة العربية ورقتها ودقتها ويرجع عن كلامه ويرى أنها أي: العربية لا يمكن أن تكون مأخوذة من أصوات الطبيعة ويميل بنهاية بحثه إلى أنها وحي من الله..
عاش العرب في البوادي والفلوات ولا يحصرهم بناء ولا يقيدهم أدهم فنشأت أخلاقهم حرة أبية تأنف الذل وتفضل الموت عليه وبعيدة عن كل ضيق أو جور فجاءت لغتهمغنية بالألفاظ وبقدر ما يتمتعون به من حرية فهي لا تعرف حدودا لدرجة أن لميستطع احد أن يلم بها إلا نبي كما ذكر أهل العلم.يروي الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين أن هناك اختلافاً في أول من كتب العربية فذكر كعب الأحبار أن أول من كتب بها آدم ثم وجدها بعد الطوفان إسماعيل وحكي ابن عباس أن أول من كتب بها ووضعها إسماعيل على لفظه ومنطقه وحكي عروة بن الزبير أن أول من كتب بها قوم من الأوائل أسماؤهم أبجد وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، وتخذ، وضظغ وكانوا ملوك مدين...وحكي ابن قتيبة أن مرامر بن مرة قد سبقهم إلى الكتابة وهو من أهل الأنبار ومنها انتشرتوعموما كل ما ذكر بهذا الخصوص أمر لا فائدة منه لبعد الزمان وامتناع نطق الآثار ففي عصرنا الحديث أثبت العلماء عن طريق فك رموز الكتابة القديمة وتحليلها أن منطقة سيناء هي السباقة إلى معرفة الكتابة ولكنها كتابات تصويرية تعبيرية، فاقتبس الفينيقيون الأحرف التصويرية وحولوها إلى رموز صغيرة تؤدي معان كبيرة.فخذ مثلا حرف الألف (ا) مأخوذ من رأس الثور وحرف (م) من الماء، وحرف (و) وتد وحرف (ب) بيت و(ك ) كف و(ع) عين و (ج ) جمل بارك و( ل) عصا، و( هـ ) شبكة و (الراء) يرمز للرأس...وهكذا..
وقد اشتهرت الأبجدية الفينيقية اشتهاراً واسعاً في المنطقة، وتطلعت الأمم إليها رغبة في اقتباسها..
وفي القرن التاسع قبل الميلاد دخلت الأبجدية إلى أوروبا عن طريق قدموس الفينيقي كما يذكر هيرودوت..(2) ومن الطريف أن اليونان عندما اقتبسوا الحروف كتبوها في بادئ الأمر من اليمين إلى اليسار ولكنهم بعد حين عزفوا عن هذه الطريقة وكتبوا من اليسار إلى اليمين وسبب ذلك أن الساميين كانوا ينقشون الكتابة بالأزميل والمطرقة ، والأزميل عادة يمسك باليد اليسرى والمطرقة باليد اليمنى... وبعد حين اكتشفوا المداد، فكتبوا بريش الطيور..وهكذا.. ...(pen) ومازال هذا الاسم
وأرجعت الدّيانات السّماويّة اللّغة إلى أصل واحد إلهيّ .ففي البدء كانت الكلمة. وبها كان الكون, تقول الديانة اليهودية والمسيحية: أن الله خلق آدم وخلق لغة معه بوقت واحد لأن الله كلم آدم بلغته, أما في الإسلام فهي توقيفية: أي بتعليم ووحي إلى آدم من ربه فآدم علمه الله جميع اللغات أي أصول اللغات وليس اللهجات وذالك لقوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها)
فالظاهر أنه علمه أسماء جميع المسميات بجميع اللغات لأن الأسماء لفظ عام مؤكد بكل وتأكيده بها يعني أن هذا العام لم يرد به الخصوص....
ومن الدليل على ذلك أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا لربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء ...)
الحديث وقد رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه
وذهبت طائفة أخرى من الأصوليين إلى أن اللغات اصطلاحية وعلى هذا فالذي علمه من الأسماء قد لا يكون الأسماء بجميع اللغات فقد يكون بلغة واحدة وقد تكون هذه اللغة بمثابة الأم لجميع لغات بنيه..
ذكر المؤرخ اليونانيّ هيرودوت أنّ بسالميك ملك مصر عزل وليدين عن النّاس حتّى بلغا سنّ النّطق فكانت أوّل كلمة صدرت عنهما هي كلمة (بيكوس) . وهي تعني: الخبز باللّغة الفريجيّة و ليست كلمة مصريّة.
أما عند الفلاسفة فقد انقسموا في أصل اللّغة فالطّبيعيّون يرجعونها إلى الطبيعة. في حين طائفة(المواضعيّون) إلى المواضعة. ونشأت عن كلّ تصوّر منهما منهجيّة في المقاربة ونتائج فيها.
على أنّ أسطورة بابل التّوراتيّة الإنجيليّة تسرّبت إلى أروبّا في القرون الوسطى واستمرّت تفعل فعلها حتّى القرن الثّامن عشر، معطّلة بذلك التّفكير العقليّ في المسألة. ولم يمنع استمرار هدا الفعل وجود محاولات جادّة لتحطيم هذه الأسطورة...
وفي العقد التّاسع من القرن الثّامن عشر (1786) اكتشف السير وليام دجونز في عمل مقارنيّ وجوه التّقارب بين اللّغات السّنسكريتيّة والإغريقيّة واللاّتينيّة.
وانتهى إلى أنّ هذه اللّغات من أسرة واحدة هي الأسرة الهنديّة الأوروبيّة ، بل لها صلة بالغوتيّة والسّلتيّة والفارسيّة . وفتح بذلك عهدا جديدا من النّظر التّاريخيّ في اللّغات ، إذ انتقل الفكر البشريّ في المسألة من الخرافة والأسطورة إلى الوقائع وتبيّن الباحثون أنّ العبريّة المتعالية ليست سوى فرد من أسرة أخرى هي الأسرة السّاميّة الحاميّة. وكان لاكتشاف السّير وليام دجونز أثر جليل لأنّه فصل بين الدّين واللّغة ودفع بالميثولوجيا إلى مقاربات أشدّ علميّة...)(3)
نظرية أخرى تقول: انها ترجع في أصولها الأولى إلى الفعل ورد الفعل من أي صائت كان.. صدرت فطرة وسليقة وطبعا..
ولو نظرت إلى مخارج الحروف وندخلها وإدغامها وإخفائها وإقبالها وإبدالها وإعلالها ..
ونزوحها من مكان يكاد يكون واحدا. لوجدت أن بينها نسبا ورحما، وأن بين حاضرها وماضيها نسبا ورحما أيضا.
ولو رجعت إلى استعمالات الألفاظ في القواميس لوجدت بعضها يلج في بعض كما يخرج بعضها من بعض ..
وإنها لترجع في أصولها الأولى إلى الفعل ورد الفعل لتلتقى مع الحركة العامة في الوجود.
كما يقول بعد المفكرين الغربيين أمثال مدريس لفاكس: إذا كانت الذاكرة الاجتماعية تستمد قوتها وديمومتها من تلك الجماعة البشرية التي هي عماد الذاكرة.فِإن من يقوم بعملية التذكر هم الأفراد، من حيث هم أعضاء في جماعة".
وهذه اللغة في لساننا ضرورة ما دمنا لا نعي حركة الجدل فيها ونحرر منها بقدر ما نعي.
ولو قسم لفرد أن يحفظ كل النصوص ، ولم يع حركة الجدل فيها سليقة وكنا كما كان القوم من قبل ، وفهمها كما هو واجب القوم اليوم ؛ فإدراكه لحركة الجدل فيها على قدر استخدامه لها في صيغ جديدة ، ولغة الفرد ليست قطعة من ثوب لغته ، بل صوفا يغزله وينسجه على هواه ، ثم يخيط منه ثوبا على قدره هذا هو حظه من لغته .
إن تحميل اللغة ما لا تحتمل يتوجه إلى مراد الناطق بها حين يحملها ما لا يحتمل، أما اللغة نفسها فهي كالشجرة، فهي اكبر من كل محاضرات علماء النبات في كل الجامعات، لأنهم اعجز من أن يحيطوا بها، فالبحث في بناء اللغة أمر، وما يريد زيد الناس وعمرهم من نطقهم بألفاظها أمر آخر...
واللغة في حركتها الجدلية وسعت وتسع كل أهلها، وأما ألفاظ المتكلم فتسعه وحده وعلى قدره كأي قلم في يد أي كاتب فهو معه على قدره.(4)
نستنتج من هذا الكلام ضرورة وجود نظرية لغوية جديدة تستنطق الطبيعة بحروف إنسانية لها صدق حركة الوجود، وبيان ووضوح منطق الإنسان...
ومنه فإننا نحاول مما سبق أن نجد تفسيرا للكلمات التي تعج بها ثقافتنا مثل: لمرابط, الزاوي حسانى, مغفري ,لمعلمين الصناع التقليديون , آزناكى ,ايكاون أو الفنانين..
لمعرفة معاني هذه المصطلحات لابد من استعراض المعلومات السالفة الذكر عن المجتمع الموريتاني بصفته الوعاء الحاضن لها...يتواصل..