كانت الجماهير تلتف حول قادة كانوا محور الحركة السياسية والأحزاب. وكان هؤلاء يوحدون قطاعات من الجماهير, ولكن ضمن إطار عاطفي والتزام معنوي عام...
ومع دخول موريتانيا هذه التجربة الديمقراطية الغير مسبوقة اختلطت الأمور جملة وتفصيلا على الفاعلين السياسيين وهم مجموعة فسيفسات من الأحزاب والحركات القومية والإسلامية والديمقراطية…
لقد كتبت سابقا دراسات ومقالات حاولت من خلالها أن أقدم تصورا ولو بسيطا عن مجتمعي الذي وجدت نفسي فيه وقد أخذت منى هذه الدراسات الكثير من الوقت وبعد جهود مضنية من البحث والمتابعة في بلد يفتقر لأدني وسائل البحث الحديثة توصلت إلى تصور ترجمته في كتيبات ومقالات مثل: (مجتمع البيظان بداة في الحضر) وثقافة التحصيل بين الشناقطة الأوائل والشناقطة الجدد...(وموريتانيا وثقافة لفريك).. و(ديموقراطية لفريك بين الفعل وردة الفعل) ..وأخيرا وليس آخرا (موريتانيا بين الغزو التقليدي والغزو الذاتي..) وقد ترجمت تلك البحوث في كتاب بعنوان: (تائه يبحث ؟!) بمشاركة العلامة حمدا ولد التاه ولكن كل مناسبة تأتي بحقائق جديدة, تجعله جديدا دائما.
في السابق حضرت الانتخابات الرآسية في العاصمة أنواكشوط وبد عقد من الزمن هاأنا أحضرها في مدينة أزويرات ولم يتغير أي شيء فالحملة الانتخابية هي نفسها: تسلية.. غناء..سمر..
إذا نظرنا إلى هذه الخيام كمنطلق لهذا المقال, فإننا نجد كثيرا من التسلية وقليل من السياسة, وقد لا يعرف أحدنا أوكلنا ما معني الغناء الذي يعتبر وقود هذه الحملات الانتخابية في تلك الخيام على مدار الساعة...
مما لاشك فيه أن الشعر الموريتاني عامة والعامي الحساني خاصة كان ديوان المجتمع الموريتاني, ومستودع أخباره ومعدن علمه, وسجل حكمته في ظل ظاهرة الحفظ والتلقين في غياب التدوين, كما كان لسانه الناطق باسمه, وعريضة شكواه, ورسالة شكره, وبرقية تهنئته ووثيقته التي خلدت كثيرا من تقاليده وعاداته وصراعاته وآراءه الفكرية والأدبية والسياسية والاجتماعية.
وقد يكون الشعر الحساني أقوى فتكا وأنكي في جلسات اللهو والطرب والغناء وهذا ما نشاهده الآن, حيث يكون المرشح الفلاني مْفجر للمساجلات والمطارحات الشعرية التي تتحول -أحيانا- إلى نقائض هادفة أو فاحشة ساخنة تؤججها أطراف أخرى منحازة, أو معارضة لهذا أو ذاك من الشعراء الحاضرين, مما يحفز على التجويد حبا في التفوق الأدبي والفوز بإعجاب هذا الناخب أو ذاك..
ولما كانت مشاعر الإنسان واسعة جدا واللغة ضيقة فقد استعان الإنسان منذ أقدم العصور بشيئين حتى يتحايل على اللغة ويوسع من مدلولها قدر الاستطاعة.
الوسيلة الأولى: الغناء؛ فالإنسان الذي يغني تطوف بمشاعره معان وخلجات وأحاسيس يستنجد باللغة ويعتصرها للدلالة على المعنى الذي يريده فلا يجد ما يطمح إليه. لذا يستعين باللحن وبالنغم يتأوه ويودع مشاعره ليتمم ما عجزت اللغة عنه ويتضح هذا بالنسبة للمستمع عندما يطرب لأنه شعر بالمعاني الكامنة بين جوانحه والتي عجزت اللغة عن التعبير عنها فتفاعل معه في هذا الشعور.
إذن الغناء إنما وجد ومنذ أقدم العصور لكي يتحايل الإنسان بواسطته على اللغة فيوسع من اللغة عن طريقه وعن طريق اللحن، والشجو، وما إلى ذلك ( وهذا هو عجز الإنسان أمام اللغة من باب التصوير ).
الوسيلة الثانية: التي استعان الإنسان بها وتحايل على اللغة عن طريقها،هي وسيلة المجاز: الاستعارة، التشبيه، الكنايات..
المجاز؛ هو تعبير بأشياء خارجة عن دلالات الحقائق, لأن لغتنا ضيقة فتحايلنا عليها عن طريق إختلاق صور من المجاز، تقول: سال الوادي، الواقع أن الوادي لم يسل، الماء هو الذي سال...لكنني عندما أنظر إلى هذا الوادي وقد اهتاجت المياه في داخله وأصبحت تتدفق أنظر وأجد أن الوادي هو الذي يسيل هذا الشعور كيف أعبر عنه، أتحايل عليه وأجد المجاز أصبح بابا واسعا جدا أضاف إلى اللغة لغة أخرى ، و لما كنا مصروفين عن الحقيقة الواحدة إلى مجازاتها التي لا تنتهي بحكم أنها تقع منا في نهاية طريق لا نهاية لها، وليس لنا إلى أن نقترب إليها بمجازاتها ليحقق كل فرد ذاته، بما يختار من هذه المجازات، التي تصدر عن رحم هذه الحقيقة الواحدة وترتد إليها، وهذا ما يحقق للإنسان إنسانيته ليحيا حريته واختياره اللتين يقوم عليهما وجوده إنسانا حرا مختارا.
يقول المعري:
لا تقيد على لفظي فإني مثل غيري تكلمي بالمجازي
ونأمل أن يكون ما تقوم به موريتانيا حاليا من انتخابات غير مسبوقة بالمقارنة بانتخابات الدول الأخرى وخاصة الدول العربية مثالا يحتدا به في المنطقة, لما تتمتع به هذه التجربة من تنوع لجمعها لكل شرائح المجتمع متمثلة في من ينوب عنهم وعدم مقاطعة هذه الانتخابات الرآسية من أي طرف كما كان يحدث في السنوات السابقة..
وهذا ما سيمكن الباحث من المقارنة بين الأطراف المتنافسة للخروج بصياغة معقولة, تكون أساسا يمكن أن تبنى عليه هذه الدولة الفتية, التي مازالت تبحث عن نفسها...
وكم كانت مفاجئتي وأنا أتصفح تلك الكتابات الكثيرة وأستمع إلي خطابات المترشحين الذين سيحكمون هذه البلاد خلوها من أي موضوعية لاتخاذها الشائعات والأراجيف منطلقا لهذه الكتابات وتلك الخطابات وغاب عن هؤلاء أو تناسوا أن الشائعة عادة ثقافية متداولة لدى فئات عريضة من الشعب الموريتاني, يجد فيها البعض التأثير على الأحداث في مجتمع يهتم كثيرا بالقال والقيل..خاصة بعد توفر وسائل خطيرة مثل الموبايل والانترنت..ووجود ساحة خصبة لهذه الشائعات...
لماذا لايأخذون مثلا وسائل التواصل الاجتماعي ويوظفوها في حملاتهم بدل الأغاني والأناشيد والمصاريف الهائلة في الخيام والصالونات..!!
ولماذا لا يطبقون تجربة النهضة في تونس التي ركزت على التواصل مع الناس
بدلاً من الدعاية ليربح الناخبون وسائلهم المادية وراحتهم البدنية والذهنية وقد تكللت تجربتها بالنجاح..
اليس من الأفضل أن نوفر تلك الأموال التي تصرف في الغناء والسهرات الليلية على الناخبين الذين نريد أصواتهم ويكون هذا عربون حسن نية فالذي يعطي من هذا سيعطي لا محالة اذا تولى زمام الحكم...
خاصة وأن الذين يحضرون الى هذه الحفلات لا يمثلون سواد الشعب بل قد لا يصوتون كل همهم هو تقاسم الكعكة أما أن يصتفوا في الطابور لتأدية واجبهم الانتخابي فهو امر مشكوك فيه وغير مضمون فحسب علمي يسيرون عكس مسار الحياة: ليلهم نهار ونهارهم ليل...
وهنا أضم صوتي الى الأستاذ الكبير محمد ولد الميداح الذي قال في تدوينة له:
لو كان لي من الأمر شيئ لنظمت الانتخابات الرئاسية فورا ليربح المترشحون والناخبون وقتهم و جهدهم ووسائلهم المادية...
فكل واحد منا قد حسم أمره و اختار مرشحه حسب معايير خاصة لا دور للكلمات الرنانة ولا الأناشيد الصاخبة ولا الخيام المزركشة في تحديدها..
مخطئ مترشح ظن أن من بيننا، معشر الناخبين، من سيصوت له على أساس برنامجه الانتخابي!
فماذا ننتظر بالتصويت إذا كانت صناديق الاقتراع جاهزة لاستقبالنا؟ ).
ليس عدلا أن تصبح موريتانيا وهي تعيش عرس انتخابي فريد من نوعه ساحة لشائعات مقرضة خاصة اذا كانت تصدر من أقلام معروفة نعول عليها كثير في المستقبل..
يجب على تلك الأقلام والفاعلين السياسيين أن يجربوا هذه الحملات الغير تقليدية السالفة الذكر..كما يجب على المترشحين أن يتواصلوا مباشرة مع الشعب بعيدا عن الأغاني والسهرات وأن يوظفوا تلك المبالغ الهائلة للتواصل مع الشعب بدون واسطة اذا كانوا يريدون حقا الأصوات الغير مزيفة.