كَثُرَ اللَّغَطُ مؤخرا حول الحكم العسكري والمدني، والمترشح العسكري والمدني، وعن الجيش والسلطة، وعن الحاكم العسكري في الزي المدني؛ و كلّ ما يأتي علي شاكلة الكثير من هذه العبارات التي تُلْقَي جُزافا، لغرض التشويش علي البسطاء، ولِتُزعجَ، لِكّثرَةِ ترْديدها، الذين يُحِبُّون الدقةَ في الأمور، والتوصيفاتِ الصحيحةَ، ويملكون من الفراسة ما يمنحهم القدرة علي الفصل بين الشظي والصميم، ويُمَيِّزونَ، بَدَاهّةً، بين الغَثِّ والسمينِ. ويأتي في هذا السياق ما يُسَمّيه البعضُ فرصةَ "التغيير المدني"، التي لا تُضَيَّعُ، علي حدّ تعبيرهم! ويَسْتَقْوِي بالفكرة، وبشكلٍ لافتٍ، دَاعِمُو أَحَدِ المترشحينَ، كأنما عثروا في مترشحهم الذي يدعمون اليوم، علي تَمْرَةِ الغُرَاب ! وتمرة الغراب نجدها في المثل الذي يقول : (صَادَفَ تَمْرَةَ الغُرَابِ)، وهو مثل عربي أصيل، يُخبرنا عن الشيء يَعْثرُ عليه أَحَدُهُم، فيُعْجِبُه، وَيَعْظُمُ في صدره، ويقع في نفسه من الاعجاب به والدهشة، ما يجعله في تصوُّره اكتشافا لِأَمْرٍ عظيمٍ، هائلٍ، نادرٍ وعجيب؛ مع أنه، في الحقيقة أمرٌ عاديٌ، قد لا يتطلب كل تلك الدرجة من الدهشة والاعجاب!
ولعلَّ هذا حالُ الذين ذكرنا، من الدعاة إلي فرصةَ "التعيير المدني"، التي لا تُضَيَّعُ، علي حدِّ زعمهم!
أما لمن يرغب في الحفاظ علي حدٍّ أدني من الموضوعية والتَّبَصُّرِ، فدعونا نُعَمِّقُ الحديثَ، ولو يسيرا، حول هذه الفكرة، حتي نَري هل، حقاً، علينا اعتبار أي مترشح لم يعرف المؤسسة العسكرية، ولم يتلق أي تكوين عسكري، هو الأنسبَ والأفضلَ لقيادة البلد؟ أم أن الأوْلي والأحرى بالتفضيل هو المترشح الذي خَبَرَ المؤسسةَ العسكريةَ، وخدم وطنه في السلك الأكثر انضباطا، وتنظيما، في الدول الناشئة؛ حيث تترسخُ الجِدِّيَةُ والصرامةُ والنظامُ، ويتعلم المواطن الانضباطَ، واحترامَ الوقت، والتفاني في الخدمة، ويستلهم معاني الوفاء، والتضحية، ونكران الذات من أجل الوطن؟
نجد مثلا، أن العديد من الدول و الشعوب الأكثر وعيا، والأعرق في تجاربها المؤسساتية، لم تتردّد يوما في جعل الخدمة العسكرية إلزامية، بِجَبْر شباب تلك البلدان علي أدائها، فَوْرَ بلوغهم سن الرشد، خِدْمةً للوطن، وترسيخاً لفكرة الدولة، والمؤسسة في أذهانهم. وعلي ذكر ذلك، فلا بأس من المطالبة باتخاذ مثل هذا القرار في بلادنا، لما لنا من حاجة ماسّة إليه كأنجع وسيلة لمحو فكرة الطبقية، والشرائحية، والفئوية، والقبلية، والجهوية، وغرس الولاء العميق والمتجذر للدولة والوطن أولا وأخيرا، بدل كلّ تلك الانتماءات. وما عودة المملكة المغربية، بالقُرب منا، هذه السنة، إلي العمل بإلزامية الخدمة العسكرية من جديد، وتعميمه علي الشباب من الجنسين، إلا دليل علي أهمية الموضوع.
والحقُّ أنَّ أدبيات المحللين-في الثمانينات والتسعينيات من القرن العشرين- لتجارب الأنظمة ووقائع أحداثها السياسية البارزة في عَالَمَيْنَا العربي والافريقي، قد تَعَمَّدَتْ ترسيخّ صورة نمطية عن الجيش في العالم الثالث، وعن إشكالية تأقلمه مع الديمقراطية، رَوَّجَ لها الكثيرون، فيما بعد، دون التمييز بين وضعيات البلدان المختلفة، مع أنه من المسلَّم به أن التجارب، تختلف من بلد إلي آخر . فما يصلح لبلد، قد لا يصلح، بالتأكيد، لبلد آخر.
ولن ننسي أبدا، نحن الموريتانيين، فترة التردي السياسي، والمؤسساتي، والاقتصادي، والأخلاقي، والأمني، الذي أدَّي إلي انعدام الاستقرار السياسي، والانفلات الأمني الخطير، وتحكم "الكومبرادور" في اقتصاد البلد، ورفض رجال الأعمال "الكبار" دفع الضرائب للدولة، وتحكمهم في الصفقات العمومية، وهيمنتهم علي المشهد السياسي، والنهب الممنهج للمال العام، وانتشار بيع المخدرات، والفساد التام، وانعدام البنية التحتية الأوَّلية، والشلل شبه الكلي للجيش، والتسيب، والضعف، والهشاشة في جميع مرافق الدولة، والغياب الكلي عن لعب أي دور علي الساحة الدولية والاقليمية؛ مما سهَّل توالي الانقلابات عندنا، منذ 1978م وحتي 2008م.
لكن، ماذا حدث بَعْدَ 2008؟ استعاد شعبُنا ثقته في مؤسسته العسكرية التي تضطلع بمهامها الدستورية علي أكمل وجه، منذ 2009م؛ بعد أن تمّت عملية إعادة بناء جيشنا، وتطويره، وتمكينه من الموارد المالية التي سمحت بإعادة هيكلته، وعصرنته، وتزويده بأحدث الأسلحة والمعدات العسكرية، بطريقة رائعة، نالت الإعجاب والإشادة في الداخل والخارج، وكان ذلك في ظرف زمني وجيز. لذلك، لامجال إطلاقا، للعودة إلي الوراء.
ثم قَبِلَ الجميعُ الاستجابة لمقتضيات الممارسة الديمقراطية للحكم، وذلك عندما رضي قائد حركة التصحيح يومها، "مُلْهِمُ وبَاني نَهْضَةِ مُوريتانيا الحديثة"، السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، -رغم أنف المناوئين- أن يغادر المؤسسة العسكرية، ليصبح مدنيا بالكلية، ويشارك في الانتخابات الرئاسية، لمرّتين.
ولِيَفُوزَ في استحقاقين متتاليين - 2009- و 2014 - بثقة الناخب الموريتاني، وبنسبة مريحة، بعيدة كل البعد عن النسب الخيالية لـ 99’99 في المائة!
وشهد الجميع، وقتها، بنزاهة وشفافية تلك الانتخابات التي عرفت مشاركة مختلف مكونات الطيف السياسي، مُمَثَّلاً في أعتي وأشد رموز معارضته السياسة راديكاليةً وتَطَرُّفاً.
لذلك لم يَعُدِ الحديثُ اليومَ وارداً البتةَ عن نظام "عسكري" ؛ حيث استقرت الأوضاع السياسية في بلادنا، وولَّي عهد الانقلابات إلي غير رجعة، وشهدت موريتانيا تطوّرا ملحوظا علي جميع الأصعدة، لا يمكن للمكابر نكرانه.
وتعاقبت بعد ذلك حكومات مدنية بالكامل، مارس فيها ، ولا زال يمارس إلي اليوم، الوزراء المدنيون، والمستشارون المدنيون، والولاة المدنيون، والحكام المدنيون، والمنتخبون المحليون المدنيون، مَهامَّهم وسلطاتهم، ولم يَشْكُ أيُّ واحد منهم يوما من الأيام، من تدخل المؤسسة العسكرية في صلاحياته أو مهامه الموكلة إليه.
إذا، بعد كل ما عرضنا من حقائق، سيكون، قطعا، من المجانفة للصواب بمكان، بل من المغالطة والكذب المكشوف، أن نزعم أن بلدنا يعرف اليوم "نظاما عسكريا"، علينا التخلص منه، لنختار مكانه "نظاما مدنيا". فتلك فِرْية لن تنطليَ علي أحد! وعلي الذين يُرَوِّجُونَ لها، أَنْ يَكُفُّوا عن تحديّ خيار المواطنين الذين صوّتوا، وبأغلبية مريحة، خلال استحقاقين، 2009 و 2014م، ليختاروا رئيسا منتخبا، ترك الخدمة العسكرية، وغادر الجيش، قَبْلَ أن يتقدم لكسب ثقة أغلب الموريتانيين؛ عن طريق صناديق الاقتراع، التي تَبْقَي أولا وأخيرا تمثل لوحدها، ولوحدها، وسيلة التعبير عن خيار الشعب. وهو القائد الشجاع، الذي أدّي مأموريتين علي أكمل وجه، ثم أبي إلا أن يحترم الدستور، ليخرجَ من الرئاسة، -قريبا-، معززا، مكرّما. مُرَسِّخاً بذلك سلوكا راقيا، سيبقي راسخا في عُرْفِ نظامنا السياسي، وسيُلْهِمُ دون أدني شك بلدانا افريقية وعربية أخري، قد تكون لا تزال في حاجة إلي احترام زعمائها لدساتيرها. فما أروعه من درس، وما أرقاه، وما أجمله من سلوك : حين ينتهي عدد المأموريات التي يسمح بها نصُّ الدستور، علي الرئيس أن لا يعيد الترشح. هكذا وُفِّقَ رئيسنا، ولله الحمد، في إعطاء هذا الدرس الراقي من الممارسة الديمقراطية للحكم!
وفي المُحَصِّلَةِ، لدينا وبكل وضوح، حقيقةٌ مفادها أن كل مواطن موريتاني، يري في نفسه الأهلية والرغبة في المنافسة علي كرسي الرئاسة، ويستجيب للشروط القانونية والاجرائية المعمول بها، له الحق في السعي إلي ذلك عن طريق الترشح لمنصب رئيس الجمهورية؛ ولا فرق بين القادم حينها، ولو لتوِّه، من المؤسسة العسكرية، ما دام قد خرج من الجيش؛ وغيره من المترشحين، القادمين من مؤسسات أو تنظيمات أخري. هذه هي الحقيقة التي لا غُبار عليها.
فماذا يثبت لدينا، بعد انجلاء هذه الحقيقة وتَكَشُّفِها؟ يثبت لدينا، وبشكل أكيد، أن مترشح الإجماع الوطني، ليس مرشح المؤسسة العسكرية، كما يحلو للبعض أن يغالط الناس بذلك، وإنما هو مترشح كلّ المواطنين الموريتانيين الذين يَرَوْن فيه رمزا للثقة، والمصداقية، والكفاءة، والأهلية، والوفاء، وهو القائل : "لا أسعي لامتيازات السلطة وأبهتها". وهو الفارس الذي انبري لِيُسَطِّرَ، في السجلّ الذهبي لخدمة الوطن، أسطرا، ستكون، بحول الله، إضافة نوعية لمسيرة البناء والتقدم.
ولا أحد ينكر أن المترشح، محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني، اليوم، محطُّ أنظار كلّ الموريتانيين، الذين يطمحون إلي التغلب علي النواقص، وسدّ الثغرات، ومعالجة الاختلالات، وما أكثرها، في أي عمل بشري، وتعزيز المكتسبات بنهج الرشاد. نهج البناء، والتشييد، والعمران. ولا شك أنه سيكون للرجل أسلوبه الخاص به في التعاطي مع التحديات التنموية التي تواجه بلادنا، وأَنَّ الأمل، كل الأمل معقود عليه، لتحقيق المزيد من التقدم والرفاه لشعبنا. ومما لا شك فيه أيضا، أن ملفاتٍ كبيرةً ومعقَّدةً، كمكافحة الفساد المالي والرشوة والزبونية، والمحسوبية، بلا هوادة؛ ومعالجة واقع التعليم، والتصدي للإلحاح الذي تطرحه وضعية الفئات التي عانت الغبن والتهميش، وخلق المزيد من الفرص لتشغيل الشباب، وتعزيز منظومتنا الصحية، وتطوير الزراعة والصيد، وتكثيف شبكتنا الطرقية، وبناء المزيد من المنشآت الخدمية في مَجَالَيْ الماءِ والكهرباءِ، وفوق كل ذلك، الحفاظ علي أمن واستقرار بلادنا؛ ورشاتٌ تشكل الهاجس الأول، والشغل الشاغل لمرشح الثقة والأمل.
ويبقي محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني بحق، مترشح الموريتانيين كلِّهم، فهو المدني الخلوق، الذي يحسن خفض الجناح وقت اللين، والحازم الصارم، وقت الحزم والمِضَاءِ؛ الذي يحسن الانصات إلي الجميع، ويحترم آراء الجميع، ويحسن اتخاذ القرار المناسب، في الوقت المناسب بالمشورة، والرَّوِيَّةِ والحكمة؛ وذلك ما شهد به كُلُّ من الْتَقَي به، أوْ حاوَرَهُ، من المعارضة والموالاة علي حدِّ السواء؛ وهو مع ذلك الخبير بما يَتَطَلَّبُهُ الحفاظ علي أمن الوطن، وتحصينه ضد الإرهاب والعنف؛ فهو إذا، رجل المرحلة بحق.
وهو، إن رُمْتَ وَصْفاً عَرِيقاً، أَصِيلاً، جُذَيْلُهَا المُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ؛ فَمَنْ يُبارِزُ؟
عاشت موريتانيا، آمنة، مستقرّة ومزدهرة، في ظل عهد جديد من التغيير البَنَّاء.
نواكشوط 10/06/2019م
محمد يسلم يرب ابيهات
26614348 / 36614348