قال تعالى: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكا عظيما؛ فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا".. صدق الله العظيم..
اللهم إني أعوذ به بك من الغل والحسد، وأسألك اللهم أن أظل محب خير للناس عامة وللمسلمين خاصة، وأشهدك اللهم ربي أني لا أتمنى لجميع أبناء وشعوب وحكام ودول أمتي العربية والإسلامية إلا الخير العميم والعافية التي لا تنقطع..
ولكني يا ربي قد علمت أنك قلت وقولك الحق: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب؛ من يعمل سوء يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا"..
وأعلم أنك قد علمت ونبهت وأنذرت حين قلت: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون"...
وأعلم أن "ثورات الربيع العربي" كانت ابتلاء ربانيا لأمتنا جزاء ما اغترفه حكامنا من ظلم وفساد وإفساد حلت به عاقبتهم، ثم عمت بلواه الساكتين عليه والمستسلمين له؛ حتى وإن لم تكن لهم مسؤولية مباشرة فيه!!
ولكن الله الحكيم قد يأخذ العامة بذنب الخاصة إذا عمل المنكر جهارا دون أن ينكره أحد؛ كما في بعض الأثر.. والله أعلم!
ولقد اختلف الناس في تقييم ما يوصف ب"الربيع العربي" بين مستبشر به، ومنكر عليه؛ متشائم منه..
وإن لنا وقفة مع بعض المستبشرين به والداعمين له؛ وهم من اعتبروه ثورة عربية خالصة من أجل الحرية ولهد أركان التجبر والاستبداد؛ لا يميزون في ذلك بين انتفاضاته السلمية وحركاته المسلحة!
وإن من بين هؤلاء المستبشرين المنخرطين في دعمه بالسياسة والمال والسلاح، دولا وأنظمة عربية وازنة بأوزان الدولار والذهب والغاز والبترول..
وإنهم يقدمون لموقفهم هذا مبررا واحدا هو أنهم يقفون مع دعاة الحرية والديموقراطية؛ ضد أنظمة الاستبداد والدكتاتورية.. وإنا لنعتقد أنهم في ما يذهبون إليه إما واهمون؛ وإما مخادعون كاذبون!!
ثورة الجياع وتأويلات المتخمين!
نحن نشك شكا عميقا في أن مطلب الحرية والديموقراطية كان المطلب الأصيل والمحرك الرئيس لموجات الثورات العربية المستمرة في ربوع عدة من وطننا الكبير؛ ونعتقد جازمين أن مطلب العدالة الاجتماعية هو المطلب الأصيل والثابت الأوضح في جميع الثورات والانتفاضات الشعبية التي اجتاحت أكثر من دولة عربية، وأن تحديات الحياة المادية ومطالب المعيشة الضنكة لأغلبية المواطنين العرب، والأمل في حياة مادية أكثر يسرا وأقل عسرا.. كانت كلها حاضرة وراء تحرك ملايين المواطنين العرب للتخلص من أنظمة فشلت في تحقيق التنمية؛ كما فشلت في تحقيق الديموقراطية..
وآية كل هذا، أننا لم نر لموجات الثورات العربية أثرا ولا تأثيرا كبيرا في البلدان الأبعد عن ممارسة الديموقراطية، والخاضعة لأكثر أشكال الاستبداد سفورا وتخلفا وقسوة.. لكنها البلدان الأكثر وفرة اقتصاديا وماليا، وشعوبها هي الأكثر ترفا ورخاء ورغدا في العيش..
إننا نعني هنا بالتحديد دول الخليج العربي التي تحول حكامها إلى أكبر الداعمين لثورات الربيع العربي، معلنين صراحة وقوفهم إلى جانب مطالب الحرية والديموقراطية والتداول السلمي للسلطة في هذه البلدان المنتفضة شعوبها ضد حكامها المستبدين؛ لكن دون أن تقدم تلك الأنظمة أبسط نموذج من ذاتها لما قالت إنها تدعم شعوب الربيع من أجل تحقيقه، ودون أن يمتد دعمها لهذا الحراك كي يشمل شعوبها هي؛ حيث تعاضدت مواقفها وإمكاناتها المادية والسياسية لقمع الحراك البحريني، ولإجهاض بعض الانتفاضات المعزولة في المملكة العربية السعودية!!
هذا التناقض في المواقف الرسمية الخليجية إزاء مطالب الحرية والديموقراطية؛ وجد بين "منظري" ثورات الربيع العربي من يبرره ويتستر عليه بالقول: إن الاستبداد الحقيقي في العالم العربي هو "الاستبداد العسكري"، وليس "الاستبداد الأسري"؛ دون أن يعرف أو يعترف بأن مجال المشاركة في الحكم في الدول التي يحكمها العسكر أوسع بكثير من مجال المشاركة المتاح في البلدان التي تحتكر حكمها أسر بعينها؛ حيث إن المؤسسة العسكرية يظل الانتساب إليها متاحا لكل مواطن توفرت له الشروط القانونية لذلك؛ ثم تكون القوة والغلبة وسيلته للوصول إلى السلطة بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الجهوي أو السياسي.. كما تكون القوة والغلبة أيضا هي وسيلة الأسر في احتكار السلطة لنفسها دون غيرها من المواطنين غير المنتمين بالنسب (والنسب وحده) إلى تلك الأسر الحاكمة، رغم أننا في الحالتين نظل أمام "أنظمة مستبدة" بغض النظر عن عما إذا كانت أسرية أم عسكرية؛ غير أن "بعض الشر أهون من بعض" كما يقال!!
ولا يخفى أن غنى حكام الخليج هو الذي يقف وراء هذا "التأصيل" الهادف لنفي صفة الاستبداد عن أحكامها الأسرية، وإن لم يهتم بذلك في نظرته لبعض الأسر الحاكمة غير الغنية كما في المملكتين المغربية والأردنية!
لكن نكران الحقائق الجلية لا يلغيها، وتجاهل الوقائع الموضوعية لا ينفيها ولا يؤثر في وجودها ومفعولها..
من هنا ستبدأ ثورة الربيع الخليجي:
لقد انتصرت الثورات العربية بإزالتها للأنظمة اللاديموقراطية في تونس ومصر وليبيا، وتكاد تحقق الشيء نفسه في سوريا، بعد أن أهداها الخليجيون نصرا مزيفا في اليمن!!
ولكن ذلك ليس إلا الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل؛ حيث إن إزالة تلك الأنظمة لم يكن بالنسبة لهذه الشعوب سوى محطة الانطلاق في مسيرة بناء المستقبل اللائق الذي ظلت تهفو إليه دون أن تمنحها أنظمتها المستبدة فرصة واحدة لمحاولة تحقيقه.
وحينما تبدأ الحكومات الثورية الجديدة والمنتخبة مرحلة البناء المنشود فستجد أمامها تحديين كبيرين أحدهما اقتصادي والآخر سياسي و"عقدي"، وستدفع محاولة التعامل معهما وفق إرادة شعوبها إلى صدام حتمي مع أغلب الأنظمة التي دعمت تلك الثورات وفي مقدمتها الأنظمة الحاكمة في خليج العرب!!.
1 - أما التحدي الاقتصادي فسببه أن حكمة الله تعالى شاءت أن لا تستوي قيمة القطع الأرضية المتجاورة في حجم ونوعية وطبيعة وقيمة الثروات الطبيعية التي تحتضنها، فاختلفت البلدان فقرا وغنى؛ ربما ليبتلي الله عباده الأغنياء حتى يعلم المنفقين منهم والمقترين، والذين يؤمنون بقوله تعالى: "وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا"، وقوله جل شأنه: "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق؛ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ملكت أيمانهم فيهم فيه سواء؛ أفبنعمة الله يجحدون"... وأولئك يقول الواحد منهم "إنما أوتيته على علم عندي"، ويتصرف فيه بغيا وعلوا وفق إرادته ومشيئته؛ لا وفق شرع خالقه وبارئه والمتفضل عليه..
وسيبتلي الله فقراء عباده ليعلم المجاهدين منهم من أجل استعادة حقوقهم، وإلزام إخوتهم الأغنياء بإعطائها لهم تنفيذا لأمره جل شأنه؛ وعملا بالحكم الجلية المستخلصة من قوله تعالى: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم".. وبيت القصيد هنا قوله تعالي: "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"..
وعندما تفشل الحكومات المنتخبة في تحقيق الرفاه لشعوبها بسبب ندرة الموارد الطبيعية؛ فلن تجد تلك الشعوب صعوبة في إدراك أن الحرية السياسية وحدها لا تكفي، وأنها جزء من أمة عربية واحدة مزقها أعداؤها ضد إرادتها وضد اتجاه تطورها الطبيعي لإقامة دولة الأمة الواحدة، وأن هؤلاء الأعداء صنفان: أحدهما داخلي تمثله التجزئة وأنظمتها الإقليمية، والثاني خارجي يمثله الاستعمار والإمبريالية، وأن العدوين حليفان على شعبنا العربي يحقق كل منهما بعدوانه ما يمكَن الآخر من العدوان، ولو لم يكونا متحالفين؛ حيث إن العدوان الداخلي يسلبه القدر الأكبر مما أفلت من العدوان الخارجي فيستأثر به من دونه احتكارا واستغلالا، ثم يفرض عليه تلك القسمة الضيزى بالقهر والظلم والإذلال؛ فيبقيه عاجزاً عن استرداد إمكانات مادية وبشرية هو صاحبها بحكم أنها إمكانات أمته؛ فلا يستطيع أن يطور حياته بما هو ممكن ومتاح، لا أكثر ولا أقل..
فإن صار الشعب أكثر وعياً فسيعي دلالة الدروس الصارمة التي يتلقاها كل يوم من أحداث عصره، وسيعرف معرفة اليقين أن لا أمل، لا أمل على الإطلاق، في أن يتقدم حرية ورخاء بقدر ما هو متاح في أمته إلا بأن يواجه أعداءه جميعاً فيسترد حريته ويقيم وحدته القومية. وإنه ليتعلم كل يوم أن البشرية قد دخلت عصر الإنتاج الكبير والدول العملاقة، وأن مصير الأقزام من الدول أن تحتمي، راغبة أو كارهة، بمظلة التبعية السياسية لدفع خطر العدوان، والتبعية الاقتصادية لدفع غائلة الجوع، وأن تدفع من حرية وطنها أثماناً باهظة لمن يحميها أو يغذيها. يحميها ولو من بطشه ذاته.ويغذيها ولو من ثروتها ذاتها.
وإن بعض هذا، وليس كله لقمين بأن يحدد للشعب العربي أعداءه بأسمائهم ودولهم ونظمهم، وبأن يحفزه ويحرضه على سحقهم سحقاً، إذ أن سحقهم سحقا هو الطريق الوحيد المفتوح إلى التحرر والوحدة والتقدم ثم الرخاء" (من كتاب عن العروبة والإسلام للدكتور عصمت سيف الدولة يرحمه الله بتصرف ).
هكذا سيستجيب العربي الواعي على سجيته لما تلزمه به عروبته؛ بعد أن يعي حقيقة انتمائه لأمة مجزأة ضد إرادة شعبها المجزأ...
وهنا ستخفت كل الأحاديث عما يسمى الهجرة السرية إلى بلاد العم "سام"، ليرتفع الحديث عن هجرة عربية علنية وعنيفة نحو بلاد النفط والغاز؛ طلبا لنصيب شرعي مفروض من ثورة قومية هي ثروة الأمة العربية التي استأثرت بها أسر حاكمة عقودا من الزمن دون باقي أبناء الأمة الواحدة.. ولن تستطيع تلك الأنظمة الدفاع عن نفسها برفع شعار الاستقلال والسيادة والشؤون الداخلية، بعد أن كانت سباقة لتأكيد حقيقة الوجود القومي للأمة العربية بتدخلاتها العلنية و"الفجة" في دعم الثورات العربية بالمال والسلاح والعلاقات الدولية؛ دون مبرر سوى شعورها بالارتباط القومي والحضاري بتلك الشعوب؛ حتى وإن لم تكن خاضعة لسلطتها وحكمها بحكم الأمر الواقع الذي فرضته القوى الاستعمارية عندما قررت فرض واقع التجزئة على شعبنا وأمتنا!!
فهل تعي الأنظمة الحاكمة في الخليج حقيقة الوجهة التي تتجه حثيثا نحوها حركة الثورات العربية المعاصرة، وهل أعدت للأمر عدته؟!
أما إذا افترضنا أن الحكومات الجديدة المنتخبة ستنجح في كسب رهان التنمية والرفاه الاجتماعي لشعوبها دون حاجة للوحدة العربية أو المشاركة في الاستفادة من الثروات الخليجية؛ فإن شعوب الخليج العربي ستكتشف حتما أمرا لم يكن يخطر لها على بال، وهو أن الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والوفرة الاقتصادية يمكن تحقيقها جميعا ومعا؛ وحينها لن تتردد هذه الشعوب في محاولة الالتحاق بركب الحرية والديموقراطية، وستبادر بتفجير ثوراتها الخاصة بها قطعا.. فهل أعدت أنظمتها لهذا الأمر عدته؟؟
2 - أما التحدي السياسي و"العقدي"؛ فسيتمثل في كون التزام حكومات الربيع العربي بالديموقراطية واحترام الإرادة الشعبية، سيلزم تلك الحكومات بالابتعاد كليا عن المحور الغربي/ الأمريكي/ الإسرائيلي، وهو المحور الدولي الحليف تقليديا لأنظمة الخليج التي ستجد نفسها بغتة في صراع شرس مع أنظمة عربية نقيضة كان الكثير من فضل قيامها عائدا للمال الخليجي والإعلام الخليجي... فهل أعدت تلك الأنظمة لهذا الأمر عدته، وهل مضى من الزمن ما يكفي لينسى الخليجيون وحلفاؤهم الأمريكيون مآل العلاقة مع حلفائهم "المجاهدين الأفغان"؟؟!
على أي حال؛ نحن لا نتمنى لإخوتنا في الخليج غير مزيد الرفاه والأمن والاستقرار، ونتمنى (عوضا عن كل هذه المخاوف) أن تكون الأنظمة الحاكمة في خليجنا العربي قد هيأت نفسها وحسمت أمرها في اتجاه مواكبة التطورات العربية المعاصرة، وأن تفاجئنا باستراتيجية مكتملة تقوم على العمل التدريجي لإحداث تغييرات جذرية في دولها تستهدف إقامة أنظمة ديموقراطية تتبنى قضايا الحرية، والوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية، وتحرير فلسطين، والخروج عن مظلة الهيمنة الغربية.. ولتواصل هذه الأنظمة بعد ذلك قيادة الأمة، أو المشاركة الفاعلة في قيادتها...
"وما ذلك على الله بعزيز"، وهو ولي ذل