من أجل عبور آمن للمنعطف الحالي (2) / صالح ولد محمد

تحدثنا في الحلقة الأولى عن أولى المحطات المفصلية في تاريخنا السياسي منذ إعلان التعددية السياسية وتناولنا بإيجاز طريقة تعاطي طبقتنا السياسية - المعارض منها والموالي، مع تلك اللحظة الفارقة.

إن المتابعين للشأن السياسي في البلاد يختلفون في تقييم مستوى تمكن ساستنا من استخلاص بعض الدروس من المرحلة الأولى ومدى استعدادهم ونجاحهم في توظيف تلك الدروس - إن كانت قد استخلصت فعلا - في تصور أسلوب إدارتهم للمحطة الثانية المتمثلة في المرحلة الانتقالية التي تلت انقلاب أغشت 2005.

فلا جدال في أن هذا الانقلاب قد ساعد على تنفيس الاحتقان الذي طبع المشهد السياسي في تلك الفترة وفتح المجال لتنادي كافة الفاعلين السياسيين لطاولة حوار أثمر نتائج جد مهمة، مما ساهم في خلق جو إيجابي مكن من تحقيق شبه إجماع على العمل على تعزيز العملية الديمقراطية في البلاد.

وقد تجسدت أولى النتائج التي أثمرها شبه الإجماع ذلك في دسترة وتحصين عدم إمكانية تجديد مأمورية رئيس الجمهورية أكثر من مرة واحدة، في مسعًى جدي - هذه المرة - لترسيخ مبدإ التناوب السلمي على السلطة وهو ما نحصد نتائجه الآن.

غير أن هذا الجو الإجماعي الذي دارت في أفيائه انتخابات 2006 و2007 لم يعمر طويلا، حيث أن الفاعلين السياسين في البلاد - خصوصا السلطتين التنفيذية والتشريعية اللتين انبثقتا عن تلك الانتخابات - لم يتمكنوا من إدارة دفة الحكم بطريقة تضمن تحقيق مبدإ فصل السلطات والتنسيق فيما بينها وهو الركيزة التي تقوم عليها الديمقراطية ولم يفلحوا في تقديم إجابات مقنعة على الأسئلة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تطرح نفسها بإلحاح في تلك الفترة، خصوصا في سنة 2008 التي شهدت - إضافة إلى الأزمة المالية العالمية - جفافا ماحقا إثر النقص الشديد الذي سجلته التساقطات المطرية في خريف سنة 2007، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات على الفئات الأكثر هشاشة في بلد زراعي رعوي بامتياز كبلدنا.

وشهد منتصف سنة 2008 تحولات كبرى للتوجهات العامة للطبقة السياسية وإعادة تموضع لها في الجانبين الموالي والمعارض راسمة بذلك خريطة سياسية جديدة تطالب فيها الأحزاب السياسية الكبرى في البلاد - في مفارقة غريبة - بتدخل الجيش من جديد ووضع حد للانسداد الحاصل آنذاك، وبادر أكبر حزب معارض في البلاد لتسمية الانقلاب على السلطة القائمة وقتها بالحركة التصحيحية.

إن محاولة استكناه حقائق تلك الحقبة بتأنٍ وبطريقة تتجاوز السطح وتغوص في العمق، توصل لا محالة وبدون كبير عناء لإدراك أن تلك الأسباب المباشرة ليست إلا الأكمة التي تخفي خلفها غابة كثيفة من الأسباب البنيوية العميقة الجذور لعدم استمرار تلك التجربة.

ولعل في مقدمة تلك الأسباب:

  • افتقارنا لطبقة وسطى قادرة على حماية الديمقراطية لفشلنا حتى تلك الحقبة في تحقيق حكامة رشيدة وفي تصور وبناء سياسات تعليمية واقتصادية تنتشل المواطن من براثن الأمية والفقر؛
  • غياب أحزاب سياسية غير أحزاب الأشخاص التي لا تملك مستوى من النضج يسمح لها بحمل اللواء وتحقيق التناوب حتى في أوساطها، وليس المجتمع المدني من نقابات وجمعيات أهلية بأفضل حالا من الأحزاب؛
  •  بدء ظهور تجليات عدم تجذر مفهوم المواطنة الجمهورية - بشكل مقبول على الأقل - وتكاثر الخطاب الفئوي وأشباهه من خطابات انتماءات "ما قبل الدولة"، مع ما يمثله ذلك من تهديد لكيان البلد.

لقد حاولت السلطات خلال العشرية الأخيرة - رغم المناخ الدولي غير المواتي والجوار الإقليمي المضطرب- التصدي لهذه العقبات الكأداء ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة في مجالات رئيسية، إلا أن لتحصين ديمقراطيتنا الشابة وتطويرها متطلبات سابقة تستلزم رفع تحديات ما زالت شاخصة أمامنا بعناد شديد من قبيل الأسباب السابقة التي لم نستكمل التغلب عليها، خصوصا في ظل عدم استفادة معارضتنا من تجربة المحطة الأولى وإصرارها في المحطة الثانية على مقاطعة الانتخابات وهو الأمر الذي ذكرنا في الحلقة الأولى أنه أنتج في أولى المرحلتين ضمورا للجسم المعارض مما زاده في المرحلة الراهنة نحولا حتى بدت كلاه من الهزال وأضحى يستجدي مرشحا يدعمه من صفوف الأغلبية.

فهل سننجح في المحطة الثالثة في التغلب على هذه الصعاب حتى نعبر ببلدنا إلى الضفة الأخرى؟.                 

      يتواصل

 

14. يونيو 2019 - 20:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا