أحسنوا الاختيار بالتسهيل، وقوّموا الخلل لتفادي التطويل / د. محمد إدريس ولد حرمه ولد بابانا

الحمد لله المنعم العليّ الجليل، والصلاة والسلام على الهادي والداعي إلى الستر الجميل

يُروى أن رجلا أراد الخروج إلى المدينة لاقتناء احتياجات الأُسْرة التي يُعيل، فأردف ابنه معه على حماره وخرجا من منزلهما وقت المقيل، وبينما هما في الطريق إذا بنفرٍ تحت شجرة لها ظل ظليل، فصاح أحدهم أيظن هذان الأبلهان أنهما يمتطيان ذروة عِيسٍ أو يعتليان ظهرَ فيل، أين هي الرأفة بحيوان مٌجْهد نحيل؟ ألا يترجل أحدُهما ويُرَوّحا عن هذا الحمار الهزيل. نزل الابن وأخذ بخطام الدابة التي شرعت في النهيق والسحيل، وفي طريقهما مرّا بفتيات يتقاسمن هَوْدَجا أُسْبِل عليه سَدِيل، قالت إحداهُن وقد خنقتها العبْرة بصوت وصل إلى العجوز كالهديل، أترْين ما أرى أم أن عيناي طُليتا بكحيل، عَضِلٌّ راكبٌ يقوده شابٌ منهك كأنه عليل، أهجرت الشفقةُ هذا العجوزَ أم أن قلبَه قُـدّ من نَصِيل، تدَحرَج الأبُ من على حماره مبتلا كشخص سقط في وَجِيل، وأسرع في ترك الصّهوةِ لابنه حتي لا ينقلب همسُهُن إلى عَويل، تابعا مسيرهما فتقدما بمحاذاة شيخين يجلسان على طليل، قال أحدُهما متحسرا ما أقل حياء شباب هذا الجيل، يمشي الأبُ المسكين ويمتطي هذا الشحطُ السليل، إنه سلوك على مضاربنا دخيل، وما شاع عن السلف ولم يقُلْ به الرعيل، عندئذ قررا أن يمشيا ويجرّا خلفَهما حمارَهما الكليل، حتى يُنْهِيا ما يَلقَيانه من المارة من تسفيه و تخجيل، ولم يلبثا أن صادفا جمعا من الناس صمّوا سمعَهما بالقول والقيل، قال أحدُهم هذان يمشيان في الرمضاء والعرق المتفصِّد من جبينَيْهِما يَسيل، ومعهما دابةٌ مسخرةٌ للركوب تسير وراءهما كصديق خليل، وقال آخر أبهما مسّ أم هما غبيان لا يميزان بين حمار وفصيل، وانتهى بهما المطاف أن حملا الحمارَ فوق رأسيهما فصار عليهما إكليل، وربما لو عاشا في زمننا لكان كل منها في مستشفى الأمراض العقلية للدكتور "جا" نزيل.

قصةَ درسناها في التعليم الابتدائي ونحن في بداية التحصيل، في مُقرَّر مادة المطالعة لحماية النشء من الوقوع في الشِراك والتضليل، وللتحذير من الرُّكون إلى كلام الناس لما قد يحمل من استغفال وتقويل، إذ فيهم الصادقُ والمخادعُ والعاقلُ والهبيل.

أوْردتُ القصةَ هنا بتصرف لتعبيرها عن حال المترشح للرئاسيات المتفاني في تحسين القول والترميل، حيث يبدو حالُ كلٍ من العجوز والمترشح صنوان لا يقبَلان التخليل، فالجهود المبذولة للإرضاء تبوء في كل مرة بالخيبة والتفشيل، لأن الناخب يُفْرِط في المثالية عند الاختيار ولا يؤْثر اللين والتسهيل، حتى كاد يُخيّل لمتتبع المشهد بأن الرِّضا بمترشح أصبح ضرباً من المستحيل.

لن يخلوَ حالُ المرشح حسب الناخب من أحد أمرين مُنَفِّرَيْن لا يمكن فرضُ تقبُّلِهما بالتجميل، فإما أن يكون المرشح مسؤولا ساميا في نظام انتهى أو استقال منه أو أُقيل، وفي هذه الحالة سيكون حظه من أخطاء وعثرات النظام المشاركة في المغرم والتحميل، ويتم النظر إليه كمفسد مسرف وخائن عميل، وتعتبر مساندته مجرد نفاق وتملق وتطبيل، وإما أن يكون المترشح مبتدئً لم تَعرِف مهاراتُه التطبيقَ والتفعيل، إذ لم يسبق أن حَظِيَ بتعيينٍ في منصبٍ عالٍ ولا تحويل، ولم يَخْبُر مشاكلَ الحكم والصعاب وما تتطلب من تذليل، وليس له على قائمة المتصرفين والمسيّرين تسجيل، فهذا تنقصه الخبرة وتعوزه التجربة ولا يمكن  الاطمئنان إليه والتعويل، وما يقدمه من وعود هي مجرد تمنيات حالمٍ لذلك يسترسل في التفصيل، والداعمُ لهؤلاء سيكون كمن أفطر على جراد بعد صوم يوم طويل.

يضم الصنف الأول مترشحيْن اثنين أحدُهما رجلٌ خرج من الحكومة في آخر تعديل، عسكريٌّ سابق كان لرئيس الجمهورية في المهنة زميل، قيل بأنه متميز عن رفيق دربه وطبْعُه عصيٌّ على التكبيل، ومنهم من قال بأنه على العكس طيّعٌ سهلُ الانقياد وللرئيس وصيل، أما الثاني فكان وزيرا أولا في نظامين متنافرين أحدهما عسكري أصيل، واختلاف الأغراض والمهمات التي كُلّف بها جعلته متعدد الاستخدامات كسعف النخيل، منهم من رأى بأنها صفات تُنهي الصلاحية السياسية وتتلف الخبرة الإدارية وذلك من باب التقليل. أما بقية المرشحين الذين يُقدّم كل منهم نفسَه للناخبين كبديل، ينتمون للصنف الثاني ولا يملكون غير خطابات يُجِدّون في تزيينها بالتنميق وبأمور من هذا القبيل، ولم يقم على قدرتهم على الوفاء بما تتضمنه من وعودٍ سندٌ ولا دليل. وكل ما تُقدّم عباراتٌ يرددها الناخبون تُفصِح عن المقصود ولا تحتاج إلى تكميل.

أيها الناخبون لا ضيْر في تذكيرٍ بما مضى من غير تطويل، لقد حدد الدستور عددَ المأموريات وحصّن أحكامَها كي يُجَنّبَها التبديل، وبانضمام موريتانيا إلى الميثاق الإفريقي اكتسبت هذه الأحكامُ صفةَ التدويل، فأصبح أيُّ خرق لها عرضةً للمتابعة والتبطيل، وصرح رئيسُ الجمهورية بأنه عازم على احترام حدود الدستور وهو موقف نبيل، وكان بيان الرئاسة الذي أنهى مساعيَ النواب إيذانا له بالرحيل، ومنذ دعوة الناخبين بمرسوم صدر في شهر أبريل، والمرشحون يرفلون بقسط من الإكرام والإطراء والتبجيل، وينالون نصيبا من الولوغ في العرض والإهانة ونشر الغسيل، وبدأت الحملة ومضت الأيام ولم يبق على الاقتراع إلا القليل، وليس أمامكم غير هؤلاء المترشحين الستة فأصدقوهم التأييد ولا توهموهم بالتمثيل، ولينظر كل منكم إلى أي من المترشحين يرتاح ويميل، ويراه الأصلح للقيادة وليس له من بين المنافسين مثيل، فيصوت للمرشح الذي يطمئن على البلد تحت إمرته ويمنحه التخويل.

ولا يفوتني أن ألفت انتباه الحكومة من غير تهويل، إلى وجود ثغرة جلية تُدرَكُ من غير تحليل، في قانون الانتخابات الرئاسية المطبق للدستور والذي إلى أحكامه يُحيل، ولا يُستبْعَدُ أن تطفوَ فتنسف العملية برمتها وتُحوِّلها إلى عبء ثقيل، وتشلّ سيرَ المؤسسات الدستورية بالإرباك والتعطيل، فاللبيب يتدارك الأمر قبل فوات الأوان وبميزان العقل يَكيل، وقد قالت العرب قديما بأن من يترك الحزم يسوق نفسه إلى وضع ذليل، وهذا الخطر قابل للتفادي لمن يبتغي سواء السبيل، فاجتماع واحد لمجلس الوزراء يكفي لدرئه وهو به كفيل، ولولا إكراهات السفر خارج البلاد لبسطت لكم الأمر وأشفيت فيه الغليل، بما لدي من معلومات متواضعة ما أنا بها بضنين ولا بخيل، سأحدثكم عنها بمشيئة المنعم الجليل، بعد يومين أو أدنى من ذلك توخيا للتعجيل، بمقال غير مسجوع ولكن واضح جزيل، أشير فيه بالأصبع إلى ما أراه داء وأصف البلسم من غير أن أُطيل، وحسبي أن أكون قد بلّغتُ بالتصريح دون إهمال التعليل.

 

والحمد لله الحسيب إليه أنيبُ ونعم الوكيل، والصلاة والسلام على صفوة الخلق وولد إسماعيل.

 

 

14. يونيو 2019 - 20:37

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا