اعتبارا لظروف دولية ووطنية وبعد تقديم رجل وتأخير أخرى، وإثر عدد من التصريحات المربكة حينا والمطمئنة حينا، عزم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز أمره أخيرا مشكورا مأجورا بإذن الله تعالى، مقررا احترام الدستور وعدم ترشحه لمأمورية ثالثة، منشدا وهو يرمق السلطة قول الشاعر:
مثلك مال بانراه لعد – افحباب نسيتــــــــين
ماش عنك يغير بعد -- نبغيـــك اعــاجبتين
واعترافا منه بحق أربعين عاما من الصداقة الصادقة، والمودة الصافية، والشراكة في أهم المراحل السياسية، قرر توريث البلاد أخاه وصديقه محمد الغزواني، لتنتقل من عهد التداول العسكري الخشن على السلطة عبر الانقلابات العسكرية، إلى عهد التداول العسكري اللبق.
بدا ولد الغزواني خيارا مناسبا استطاع أن يحدث منذ الوهلة الأولى هزات، على مستوى التفكير أولا، وعلى مستوى التموقع السياسي ثانيا.
فعلى مستوى التفكير نظر كتاب مرموقون لترشح ولد الغزواني باعتباره قد يمثل فرصة إجماع مدني عسكري، يسمح بالانتقال المتدرج والواعي والمتحكم فيه من الحكم العسكري إلى الحكم الديمقراطي، دون المرور بمطبات وأزمات عنيفة، في هذا الإطار تتنزل كتابات الشنقيطي ومحمد عبد الله ولد الحبيب "ديدي" وتدوينات الرئيس جميل منصور، ولقاء الرئيس أحمد بن داداه بالمرشح.
ربما زاد خطاب المرشح في إعلانه ترشحه من وجاهة هذا الطرح، لما لمس فيه من روح تصالحية، وقوة في الطرح والشخصية ووضوح في الرؤية، لكن هذه الصورة سرعان ما شاهت، حينما بدا المترشح وكأنه مقيد في كثير من تصرفاته والتزاماته بموقف ورؤية الرئيس عزيز، خاصة بعد ارتباطه بشعار استمرار النهج.
على مستوى التموقع السياسي مثل إعلان غزواني فرصة للذين أنهكتهم المواقف المعارضة، فاستبقوا إليه من غير قيد ولا شرط، وكانوا يقولون له وهو يصدح بأمجاد العشرية واستمرار النهج، كما قال القوم لإيكنين: "نحن اعرفاناك أنت انبك لاه اتغب أعلين راصك في إكنين" حسب القصة الشعبية.
لم تتفق المعارضة على مرشح موحد، ففي حين رأت أطراف في مقدمتها حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" أن ما يناسب المرحلة هو مرشح ذو كفاءة وتجربة ومدد من خارج المعارضة لإحداث التغيير، رأت أطراف أخرى في مقدمتها حزب عادل أن المعارضة مخيرة بين مرشح من داخلها أو فك الارتباط. أما حزب الصواب فكان قد أعلن مرشحه من قبل وهو الرئيس بيرام ولد الداه ولد اعبيد ولم يبد استعدادا لسحبه عند الاتفاق، فرب فرع أقوى من أصل.
بعد تأكد خبر ترشح الوزير الأول الأسبق سيد محمد ولد ببكر، وبعد قراءة الساحة، وبعد أخذ ورد فاجأ حزب تواصل الساحة بدعم هذا المترشح، بعد مخاض تشاوري لم يكن سلسا، غير أن المرشح كان يزداد إقناعا وشعبية وجاذبية في كل خرجاته مما أكسب القرار كثيرا من الوجاهة.
رغم ما سجل حزب اتحاد قوى التقدم من نتائج متواضعة في الاستحقاقات التشريعية والبلدية السابقة، ورغم الخلاف الذي يوصف أحيانا بالحاد بين قياداته من جهة، وبين قواعد شبابية فيه وبعض قيادته من جهة أخرى، رغم ذلك قرر الرئيس محمد ولد مولود الترشح، وقد وجد حزب تكتل القوى الديمقراطية في هذا الإعلان مخرجا أخلاقيا أكثر منه سياسيا فقرر دعمه.
من جهة أخرى قررت أحزاب محسوبة على الإخوة غير الناطقين بالعربية دعم الرئيس كان حاميد بابا.
تأكد إجراء الانتخابات في جو لا تتوفر فيه الضمانات الكافية للشفافية، فلم تمثل أحزاب المعارضة في اللجنة المستقلة للانتخابات، وعرفت شكاوى واسعة في تعيين رؤساء المكاتب الانتخابية، وحددت عشرات المكاتب كتجمعات تزوير فاحش في العديد من الولايات.
جاء يوم الانتخاب الموعود 22/06/2019 إثر حملة اتسمت عموما بالمسؤولية، وتقارب البرامج النظرية والقدرة على الحشد، مما عزز من فرضية وجود شوط ثان، كان أغلب متوقعيه يرشحون له مع مرشح النظام مرشح التغيير المدني سيد محمد أبو بكر.
أعلنت اللجنة الوطنية للانتخابات عن مشاركة نحو مليون ناخب بنسبة تزيد على 62%، فاز ولد الشيخ الغزواني بنسبة 52% منها، يليه برام ولد الداه ولد اعبيد بنسبة تزيد على 18% فولد بو ببكر نسبة تقترب من 18% ثم كان بابا بنسبة 8% ثم ولد مولود بأقل من 3%.
جسد الرئيس برام مفاجأة الانتخابات الكبرى، وبدا واضحا أن اختياره لمدير حملته كان مدروسا بعناية، فقد اكتسح المناطق المحسوبة على منظمة أفلام التي يعد أحد أهم قادتها، كما استفاد من نظام العشرية الذي كان مناخا خصبا لتطور الخطاب الشرائحي، وخطاب المظلومية، فأصبح زعيم هذا الطرح بلا منافس، خاصة بعد المواقف المهادنة للعميد الأب مسعود ولد بالخير، وبعد عجز الساموري ولد بي عن البقاء كرقم صعب، وبعد إفلاس ديماغوجية النظام وتهافت وسائله الدعائية كالمسيرة التي قاد الرئيس ضد الكراهية، ومؤسساته كوكالة التضامن، عاجزا بذلك عن احتواء هذه الشريحة، فكان مجيئ الرئيس بيرام ثانيا وطنيا، وأول على مستوى نواذيب وروصو والميناء والرياض وغيرها رسالة مدوية تكاد تسمع الموتى ربما كانت أهم رسائل الانتخابات لارتباطها بوحدة واستقرار البلد.
مثل تقهقر حزبي التكتل وقوى التقدم مفاجأة مدوية كذلك، فقد كان أكثر المحللين تشاؤما يتوقع نسبة من 6-10% وهي نسبة كفيلة بتغيير الموازين. قد يكون لغياب الرئيس أحمد وانشطار التكتل، والخلاف بين قيادات قوى التقدم دور بارز في حصول هذه النتيجة. وعموما فقد كانت تلك النتيجة رسالة بالغة الوضوح في خطر المثالية المفرطة والتفريط في آراء رفقاء الدرب المجربين "بدر الدين - خديجة مالك جالو ..." على مستوى اتحاد التقدم، وفي خطورة ارتباط الأحزاب بالأشخاص على مستوى حزب التكتل، إذ بمجرد أن لم يعد الرئيس أحمد بن داداه قادرا على خوض الانتخابات أو شك هذا الحزب على الذوبان.
حل ولد ببكر ثالثا رغم النسبة الكبيرة نسبيا التي حصل عليها -حوالي خمس الأصوات- ولعل مرجع ذلك يعود إلى ضعف إدارة الحملة، وترشيدها المخل مما أربك المحلات المقاطعية الميدانية، وجعلها عاجزة عن التحرك المناسب في الوقت المناسب، كما قد يعود إلى كون الرجل ليس بذلك المستوى من التغلغل في الدولة العميقة، وقد بدت حاضنته الاجتماعية والجهوية في تزايل معه فكانت نتائجه في ولايتي البراكنة واترارزة ضعيفتين جدا بحسب ما كان مفترضا.
جدير بالذكر هنا التنبيه إلى أمرين مهمين:
- الأول: أن هذه النتيجة وإن لم تكن على مستوى التطلعات تماما، فإنها تكشف عن أن للرجل رافعات انتخابية قوية غير حزب تواصل، وأنها وفت بالتزاماتها، ذلك أن نسبة المنتسبين إلى تواصل لا تزيد على حوالي 8% من المصوتين، وأننا لو سلمنا أن له جمهورا من المناصرين غير منتسبين، فإنهم لا يتوقع أن يتجاوزوا نصف المنتسبين، وهو ما يعني أن ثلث من صوتوا لولد ببكر على الأقل إن لم يكن نحو النصف، لم يصوتوا له من قبل تواصل، وهذا ما يؤهله لأن يكون رقما صعبا إن حافظ على تحالفاته مستقبلا. وتلك رسالة مهمة وهي أن القائد المدني جاهز بأقل تأهيل، فليست مشكلة البلد ندرة الطاقات.
- الثاني: أن تأثير الانسحابات على حزب تواصل كان محدودا جدا إن لم يكن منعدما، يدل على ذلك النسبة العالية لمرشحهم والتي لا يختلف في أن لهم منها نصيب الأسد، وتلك رسالة مهمة هي أن الحزب حين يبنى على المبادئ والمؤسسية، يصير دور الأفراد فيه مهما كانت مستوياتهم ثانويا ليس له كبير تأثير، ومن يحتج بمقاطعة عرفات لا يعرف حقيقة أنما حصل عليه ولد ببكر في الشوط الأول في هذه الانتخابات أكثر مما حصل عليه العمدة الحسن في الشوط الأول في الانتخابات السابقة، هذا فضلا عن أن المقاطعة زادت نسبة التسجيل فيها بعشرين ألفا في هذه الانتخابات
أما مرشح النظام فرغم ما يوصف به من ثقافة عالية وتهذيب خلقي وعلاقات طيبة واسعة مع أكثر من جهة، وحسن إدارة الملف الأمني، ورغم أنه مرشح تحالف العسكر ورأس المال والقوى التقليدية والدائرين في فلك السلطة حيث دارت، ورغم ما شاب الانتخابات من شوائب، ورغم اعتبار البطاقات المحايدة غير معتبرة، فإنه لم يستطع الحسم في الشوط الأول إلا بنسبة 52%. وفي ذلك جملة رسائل من أهمها:
- أن التغيير ممكن ومتاح، وأن أخطر ما يحول دونه هو الانهزامية واليأس، فمما لا شك فيه أن أغلب من هجروا مراكز المعارضة إنما هجروها من منطلق اليأس والإحباط ولو أنهم كانوا اليوم في مواقعهم لكان إمكان التغيير متأكدا.
- أن من ينجح بمثل هذه النسبة "52%" في مثل هذه الانتخابات جدير به وبكل ذي قلب حي من داعميه أن يستحضروا حديث النبي صلى الله عليه وسلم "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك" فليعملوا على تعويض ما يشك فيه من الشرعية الانتخابية بشرعية الإنجاز، والتصالح، والانفتاح، وتجنيب البلاد الارتهان للخارج، وتوفير التعليم الناجح، والصحة الناجعة، وسائر الخدمات للمواطنين عامة، وللفئات الهشة خاصة، بطريقة لا منة فيها ولا استغلال.
- أن ما واكب إعلان هذه النتائج من احتقان دال على أن بلادنا اليوم تقف على مفترق طرق، فإما أن تلتحق بركب الدول الناجحة المتصالحة مع نفسها وهذا ما نرجو ونأمل، وإما أن تصير في عداد الدول الفاشلة المنهارة كليا، وإن تفهم النظام واقوى المعارضة على حد سواء لهذه الحقيقة تفرض عليهم الارتقاء إلى مستوى المسؤولية، بعيدا عن الغش والتزوير وعن الفوضى والتثوير، حفظ الله موريتانيا وأدام عليها العافية والأمن والسلام.
محمدن الرباني.