إلى أخي وصديقي ادِّي ولد أعمر
أمرتهــمُ أمري بمنـعــرج اللــوى ** فلم يستبينوا النصح [حتى] ضحى الغد
ومــا أنــا إلا من غزية إن غــوت ** [نأيت] وإن تـــرشد غزيــــــة أرشــد.
لعلنا ما نزال نتذكر جميعا أن السلطة ذات الرؤوس الثلاثة (سيدي، الزين، مسعود) التي تمخضت عنها المرحلة الانتقالية الأولى لم تكن محكمة ولا فعالة، ربما بسبب اختلاف رؤى ونيات المجلس العسكري الذي أنجبها وقاد تلك المرحلة من جهة، ومدى قوة تأثير فلول النظام البائد (المستقلون) على العملية برمتها، وما أتيح لهم من إمكانيات مالية وحرية عمل. الشيء الذي جعل القوى الوطنية التي قاومت النظام البائد وأطاحت به؛ ومن ضمنها الجيش الذي جاء بالرئيس الجديد بحسن نية ليكون عراب الإصلاحات الضرورية المنشودة، تجد نفسها فجأة - وخلال عام أصفر واحد من حكمه- أمام نكوص مريع أعاد الوطن إلى ما قبل التغيير، وفجر أزمة عميقة ما لبثت أن أطاحت بذلك الرئيس إثر محاولته هو الإطاحة بالجيش والمعارضة معا. وقد جرت تلك المحاولة الرعناء بتوجيه وتحريض من بعض فلول النظام البائد وبعض جماعات الضغط الوصولية التي التفت حول الرئيس، ليخلو لها وجهه!
واندلعت حركة 6 أغسطس لتصحح المسار المعوج! وتمتعت بتأييد ودعم الغالبية العظمى من الشعب بسبب خيبة الأمل في الوضع الذي كان قائما، وكان من بين المؤيدين لها، وبحق، حزب تكتل القوى الديمقراطية أكبر وأعرق أحزاب المعارضة! وكانت معظم الأحزاب والحركات التي قاومت الأنظمة العسكرية الفاسدة وناضلت من أجل التغيير والديمقراطية ما تزال مؤثرة ومتماسكة يومئذ، رغم ما أصابها من ترهل بسبب اجتياحها من طرف أباطرة الحزب الذي كان حاكما وتلاشى.
هل كان العقل السياسي السليم يحتاج إلى بذل أدنى جهد حتى يكتشف الطبيعة الاجتماعية والسياسية التقدمية لقادة الجيش الذين فجروا وقادوا حركتي 3 و6 أغسطس، ويعلم أن البلاد مقبلة على اجتياز منعطف جديد ومصيري، وأن السياسة هي فن الممكن؟ خاصة أن أولئك القادة تجنبوا قدر الإمكان أن تخرج عملية التغيير عن نطاق الشرعية الدستورية، ولم يقيدوا الحريات، ومدوا أيديهم إلى المعارضة وكافة فئات المجتمع الموريتاني، وأعلنوا عن انحيازهم للوطن والشعب!
لقد قلت لقومي يومها في حوار مع جريدة الحرية نشر بتاريخ 27 /3/ 09 وكان الجنرال محمد ولد عبد العزيز قد أعطى وعودا إيجابية وزار الحي الساكن وأصدر أوامره بتغيير الواقع المزري لمهدوريه: "وهناك ظاهرة الجنرال محمد ولد عبد العزيز وصحبه. لقد أطلق هذا القائد العسكري وعودا، وأدلى بتصريحات، وقام بمعاينات، واتخذ إجراءات تلامس شغاف قلوب المواطنين المهدورين سدى منذ عشرات السنين، وتعبر عن مصالحهم لم يسبقه إليها إنس ولا جان منذ العاشر من يوليو 1978! فهل الرجل يعي ما يقول، ويدرك ما يترتب عليه من نتائج، وما يفتح أو يسد من آفاق؟ ظاهرة محمد ولد عبد العزيز لا يمكن تجاهلها والتعامي عنها؛ بل تجب على كل السياسيين والمحللين مراقبتها عن كثب" (ينظر كتاب أزمة الحكم في موريتانيا، ص97).
وكنت يومئذ معارضا في صف الرئيس أحمد ولد داداه، وإن لم أنتسب قط إلى حزبه أو إلى أي حزب من أحزاب المعارضة؛ وما زلت حتى اليوم معارضا رغم انتمائي الحادث منذ نحو سنة لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية، لأني أعتقد منذ نعومة أظافري وجوب نصرة الحق ومعارضة الباطل!
فما كان جواب قومي؟ رفعوا قميص الرئيس المخلوع وطالبوا برجوعه الذي لا يريده أحد، وراغ بعضهم إلى السفارة الأمريكية يلتمس عونها في مهمتهم المستحيلة، وتسور شيخ منهم مشهور "محراب" إسرائيل عارضا خدماته ومحددا ما يحتاجه من زاد وعتاد بغية القضاء على ولد عبد العزيز! وظل أمثلهم طريقة يساوم! ولما لم تنجح الصفقة ذهب مغاضبا! بينما دأب العسكريون على بذل كافة الجهود من أجل العبور بهم وبالوطن إلى بر الأمان! وجاءت مفاوضات دكار فأُعطُوا ما أرادوا؛ بما في ذلك حكومة ائتلافية يتولون حقيبي الداخلية والدفاع فيها، ولجنة انتخابية مشتركة يتولون رئاستها.. وتقدموا أشتاتا إلى الاستحقاقات وكل يغني على ليلاه، وأعطى الشعب ثقته لـ"الجنرال الأرعن"!
ولم يستخلصوا من ذلك أي درس أو عبرة؛ بل عزفوا عزوفا مريبا عن المشاركة فيما يجري في وطنهم، سواء بصفتهم شركاء في السلطة، أو معارضة وطنية إيجابية! وما إن تفتقت "الأزهار" الأولى لـ"الربيع العربي" الكاذب حتى شاموه وقوضوا خيامهم ورحلوا "كما كان آباؤنا يرحلون"!
"ضربوا الطبل للرحيل ثلاثا ** واستمروا يقوضون الأثاثا".
ومن يومها وهم يقاطعون الحوارات والانتخابات، ويحشدون ما بقى لديهم من "قوة" في مواجهة الإصلاح والوطن؛ متحالفين حتى مع نقيضهم! إلى أن شاء الله وقدر أن يشاركوا في الانتخابات البرلمانية والبلدية والجهوية الأخيرة، وفي الانتخابات الرئاسية، فجاءت نتائجهم مطابقة لسياساتهم! وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. ومن زرع الشوك لا يجني العنب!
أولم يقل الحق جل جلاله لابن آدم: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} النساء، الآية 79. صدق الله العظيم.
وإن رئيس اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات لعلى حق حين قال: "على الذين خسروا في الانتخابات البحث بعمق عن أسباب الخسارة.. إنهم سيجدونها في الغالب تتعلق بالتحالفات المفبركة والخطط التنظيمية والعملية غير المناسبة والتقديرات الخاطئة والتحليلات القاصرة وضعف أداء الحملة.. الخ"!
لقد انتهت المعارضة القديمة في حدود النسبة التي حصدها اثنان من أقدم تنظيماتها، ولم تعد لها علاقة منذ أمد بالتغيير.. وانتهت الموالاة القديمة كذلك! وسوف تنشأ مع العهد الجديد الذي أسفرت عنه الانتخابات الرئاسية قوى سياسية جديدة متصلة بمجتمعها وبالواقع، وتفتح عيونها وآذانها جيدا، وتتعلم من أخطائها، وتنظر وتتطلع إلى الأمام! هذا هو الدرس الثاني والعبرة المستخلصة من هذه الانتخابات!
لقد تم تجديد الطبقة السياسية أردنا أم أبينا؛ وربما يكون في طليعة النابتة الجديدة المرشح الشاب المرتجي ولد الوافي وكتلة "مجددون" الشبابية، وما سينبثق عنه مؤتمر الاتحاد من أجل الجمهورية المعلق إذا قدر له أن يوفق! ولن يستطيع السيدان بيرام وكان حاميدو تشكيل قوة سياسية وطنية خارج النطاق العرقي الذي حشرا نفسيهما فيه؛ بالإضافة إلى أسباب أخرى أعمق من ذلك بكثير. وستقف لهما بالمرصاد مؤسسات جمهورية ورجال ونساء وطنيون وموحدون أمثال ولد عبد العزيز وولد الشيخ الغزواني ومسعود وبيجل وسيدي ولد سالم وسنغوت عثمان وكنبا به وجبريل انيانگ.. وغيرهم!
وفي ختام هذه النقطة نقول من جديد ونكرر: "والخلاصة التي يجب التأكيد عليها، وتكرارها في كل مناسبة، هي أن السياسة والحرب أمران جديان، وليسا شعوذة أو هزلا. وفي خضمهما يجد جد الشعوب. وعندئذ تكون في غنى عن ببغاوات تردد ما ترشح به عفويتها من قول وعمل، وترقص على إيقاع الهواجس والأوهام. أما ما تحتاجه بإلحاح شديد ما مثله إلحاح فهو إفراز وبزوغ قادة يستوعبون بما أوتوا من علم وتجربة واقع بلادهم الملموس، ويستشفون المستقبل، ويرتفعون بشعوبهم من حضيض العفوية والفوضى الهدامة إلى مستوى التحدي الذي تفرضه مهمات التطور الاجتماعي العنيد الذي لا يرحم" (من مقال دموع التماسيح على الإنسان في شمال مالي، ص 195 وصفحة الغلاف الخلفية من كتاب إلى أحرار موريتانيا).
يتبع