التعليم في موريتانيا: إمكانات معتبرة تضيع بين العجز والإهمال (2) / د.محمد الأمين حمادي

إن ظاهرة سوء توزيع الطاقم التدريسي بين الولايات التي أشرت إليها في المقال السابق وضربت لها مثلا بتلك المؤسسة التعليمية التي تتوفر على جميع المستلزمات ولكن ينقصها الطاقم التعليمي، تعد من المسببات المباشرة لتدني مستويات التلاميذ وانحسار تحصيلهم واستيعابهم للمعارف والمهارات. حيث تبلغ نسبة الطاقم التدريسي في المتوسط معلم واحد لكل 37 تلميذ في موريتانيا لكن هذا الرقم يخفي اختلالات في سوء التوزيع إذ تبلغ نفس النسبة 1/22 في نواكشوط بينما تصل إلى 1/50 في الحوض الشرقي و1/54 في كيدي ماغا و1/48 في لعصابه.

فرغم ما عرفه التعليم في موريتانيا من تطورا ملحوظ خلال السنوات العشر الأخيرة، كما يتضح من زيادة عدد التلاميذ، ومعدل الولوج للمدارس، واتساع الطاقة الاستيعابية للبنية التحتية، إلا أن ذلك الجهد لم يترجم في الواقع من حيث جودة المخرجات أو تحسين من وضعية المعلمين ومسيري المؤسسات التعليمية.

كما أن هذه المعطيات رغم أهميتها لا ينبغي أن تخفي واقعا آخر أكثر مدعاة للقلق عندما نأخذ في الاعتبار عدد الأطفال الذين لا يزالون خارج المدرسة، ونسبة التسرب خلال السنوات الأولى من التعليم، وعدم المساواة في الولوج وفي إمكانية إكمال الدراسة، وفي انخفاض مستوى تحصيل الطلاب. هذ الواقع الذي قدمت عنه بيانات ومؤشرات لقياس مدى اختلاله  في المقال السابق يشكل تحديا كبيرا لقطاع التعليم، ويلزم اتخاذ تدابير فعالة لرفع هذه التحديات عن طريق زيادة الطاقة الاستيعابية على مستوى البنى التحتية، ولكن أيضًا وربما اليوم بشكل خاص بالتركيز على تعليم عمومي ذي جودة عالية.

  • معوقات في وجه التمدرس الشامل والجودة

بالجملة فإن نسبة التمدرس الخام في التعليم الأساسي في 2016/2017 بلغت 101.4 ٪، بزيادة قدرها 4.9 مقارنة بعام 2011/2012. وتجدر الإشارة إلى أنه في جميع الولايات، ظل معدل التمدرس الخام للبنات أعلى من معدل الأولاد.  وفي المرحلة الثانوية، ارتفع المعدل من 15.1 ٪ في 2011/2012 إلى 26 ٪ في 2016/2017.  وقد اشتملت خطة العمل الثلاثية لوزارة التهذيب للأعوام 2016-2018 على بناء 121 فصل دراسي أساسي في المناطق الداخلية من البلاد، وبناء 24 مدرسة، وبناء وتجهيز 13 إعدادية. لكن على الرغم من هذه الانجازات، لا يزال نظام التعليم الموريتاني يعاني من عقبات كبيرة تعيق عملية الولوج الشامل إلى المدرسة وتحقيق تعليم ذي جودة مقبولة. إن معوقات الولوج في النظام التعليمي الموريتاني تعود لأسباب متفرقة يمكن أن نحصرها فبما يلي: النقص الكبير في البنية التحتية (رغم ما تم بذله من جهود معتبرة)، عدد الأطفال خارج النظام المدرسي، عدم المساواة في الولوج والتسرب المدرسي، انخفاض مستوى التحصيل عند التلاميذ، وأخيرا هيمنة التعليم الخصوصي.

  • لا يزال العجز قائما في البنية التحتية

وفقًا لإحصائيات وزارة التهذيب، فإن ما تم إنجازه من بنى تحتية مدرسية لا يلبي الحاجة الحقيقية من الطاقة الاستيعابية المطلوبة.  إذ يلاحظ نقص كبير في الفصول الدراسية لكنه يختلف من ولاية لأخرى. وتشير إحصائيات وزارة التهذيب للعام 2017 إلى وجود 2586 مؤسسة تعليمية في حالة غير طبيعية. ومعلوم أن النقص في الفصول الدراسية يؤدي إلى زيادة عدد التلاميذ في الفصل الواحد أوما يعرف بظاهرة الاكتظاظ: ويمكن أن يتجاوز عدد التلاميذ في الفصل الواحد 100 في المدن الكبرى.

أما المشكلة الأخرى فتتمثل في عدد المدارس غير المكتملة البنية: إذ بسبب هذه الوضعية فإن تلميذا واحدا من كل خمسة تلاميذ كان في وضعية انقطاع عن الدراسة عام 2014. ذلك أنه من بين المدارس البالغ عددها 4296 مدرسة ابتدائية مفتوحة خلال العام 2014، كانت 2322 مدرسة غير مكتملة الفصول وبالتالي لا يمكن لهذه المدارس أن تضمن استمرارية الدراسة للتلاميذ الذين يرتادونها. ولا شك أن هذه الوضعية تفسر ظاهرة التسرب المدرسي. نتيجة لذلك ، بلغت نسبة التلاميذ الذين هم في وضعية انقطاع عن الدراسة  23 ٪ من العدد الإجمالي لتلاميذ المرحلة الابتدائية خلال الأعوام  2012-2013 و 2013-2014.

وتجدر الإشارة إلى أن جهود الدولة في قطاع التعليم مكنت من زيادة عدد المدارس عن طريق توسيع الطاقات الاستيعابية، فقد ارتفعت نسبة المدارس التي لديها هياكل تعليمية كاملة من 31 ٪ في 2011/2012 إلى 36 ٪ في 2015/2016، ولعل في هذه النسب ما يشير إلى الجهود التي يتعين بذلها في المستقبل فيما يتعلق بالبنى التحتية المدرسية. ولا شك أن تشتت المدارس على كامل التراب الوطني في القرى والأرياف بشكل شبه عشوائي قد زاد من حدة هذه الوضعية.

إن تحليل المعطيات وفق مقاربة جغرافية لتوزيع المؤسسات التعليمية يظهر تباينا صارخا بين مختلف ولايات الوطن. فأربع ولايات من ولايات الوطن تعاني من معدل تدني نسبة المدارس المكتملة البنية. ويتعلق الأمر بولايات الحوض الغربي بحوالي 16٪ ، والحوض الشرقي 21٪ ، ولعصابه 27٪ ، وغورغول 28٪ من المدارس المكتملة من العدد الجمالي للمدارس في كل ولاية على حده. في حين ترتفع نسبة المدارس المكتملة عاليا في ولايات نواكشوط وتيرس الزمور بنسب عالية جدا من المدارس المكتملة، وهي على التوالي 86 ٪ و81 ٪.

  • أطفال خارج المدرسة

لا يزال هناك عدد كبير من الأطفال في سن المدرسة الذين لم يدخلوا التعليم بالمرة. وفقًا لمعطيات المكتب الوطني للإحصاء لعام 2015، فإن 25٪ من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و9 سنوات و11٪ من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10-15 سنة لم يذهبوا إلى المدرسة مطلقًا. وأسباب هذه الظاهرة كثيرة متشعبة إلا أن البعد من المدرسة أي طول المسافة الفاصلة بين مكان الإقامة والمدرسة يمثل نسبة تفسر غياب التمدرس ب 20 ٪ من الحالات.

إلى جانب الأطفال الذين لم يلتحقوا بالمدرسة مطلقًا، يوجد أولئك الذين ينقطعون عن المدرسة خلال المسار التعليمي.  وتشير التقديرات إلى أن حوالي ثلث الأطفال الموريتانيين الملتحقين بالتعليم الأساسي يغادرون المدرسة قبل انتهاء المرحلة الابتدائية (الصف السادس). أضف إلى ذلك أن هؤلاء التلاميذ الذين انقطعت بهم سبل الدراسة وفشلوا في الوصول إلى السنة الأولى من التعليم الإعدادي لا يجدون مسارا تكوينيا بديلا  فلا توجد جسور تسمح لهذه الفئة من التلاميذ بمواصلة تكوينهم ذلك أن التعليم الفني والمهني لا يستقبل إلا التلاميذ الذين وصولوا إلى السنة الثالثة من التعليم  الاعدادي.

كل ذلك رغم أن نسبة التمدرس الخام في التعليم الأساسي بلغت حدا قياسيا من الناحية النظرية حيث يمكننا اعتمادا على الطاقة الاستيعابية أن نتوقع أن النظام التعليمي في بلدنا قادر على استقبال جميع الأطفال الذين هم في سن التمدرس. إلا أن هذه الوضعية المريحة من الناحية النظرية تصطدم في الواقع بسوء توزيع الخدمات المدرسية بين الولايات. فنسبة التمدرس الخام تبلغ 170% في تيرس الزمور بينما هي أقل من 100% في ولايات الحوضين ولعصابه.  ومن الجدير بالذكر هنا أن الولايات التي تعاني من انخفاض نسبة المدارس المكتملة البنية هي نفسها الولايات التي تعاني من نسبة التسرب المدرسي الأكثر ارتفاعا بين ولايات الوطن.

  • بماذا تنبئنا المؤشرات الموضوعية؟

هذه الاختلالات في ما يبدو لم تكن غائبة عن الجهات الوصية على قطاع التعليم فهي تعي تماما التحديات التي تواجه النظام التعليمي الموريتاني خاصة في ما يتعلق بقضايا الجودة والحكامة، ويبدو ذلك جليا   في التوجهات الرئيسية المنصوص عليها في خطاب سياسة التعليم 2012-2020، والذي يحدد أهدافا واضحة لتحسين أداء القطاع في مجال الجودة والحكامة. ولكن يبدو استنادا إلى الوضعية التي تكلمت عنها آنفا أن ثمة حاجة ماسة وعاجلة إلى فهم واستيعاب الإشارات المقلقة التي تعكسها مؤشرات الجودة، مثل نسبة النجاح المنخفضة للغاية في الامتحانات بل المعدومة أحيانا في بعض المؤسسات.

يتواصل...

 

9. يوليو 2019 - 8:50

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا