تبدو الخطابات السياسية متأثرة بواقعها الماضوي في إنتاج مجموعة من الأفكار القيمية حول الماضي وعلاقاتنا بالآخرين، في نقاش مستفيض من قبل أهل الرأي والخائضين عموما في هذا المجال ، مما يستدعي تعدد الخطابات وضبابية المراد منها، خصوصا أن أي خطاب مهما كان يستهدف فكرة ما، أو التوصل إلى نتائج بتعابير معينة بغض النظر عن طبيعة الخطاب وخصائصه ونوعية الجمهور الموجه إليه.
وهو أمر تنبه إليه المرحوم محمد عابد الجابري عندما أقر بأن الخطاب العربي الحديث والمعاصر يمارس السياسة في موضوعات غير سياسية، موضوعات لا تنتمي إلى السياسة بمعنى البحث في علاقة السلطة بالمواطن وعلاقة المواطن بالسلطة وبالتالي لا تواجه الواقع السياسي القائم ولا تدعو إلى تغييره وإصلاحه من خلال تحليله وتطرح بدلا عنه إما الماضي العربي الإسلامي وإما الحاضر الأوربي فتارة الدين والدولة وتارة الإسلام والعروبة وتارة حقوق الأغلبية وحقوق الأقلية بمعنى الديمقراطية وبالتالي استمرار أشكال التآزر الاجتماعي ومظاهر التضامن السياسي القبلي في ظل الدولة المركزية (محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، دار الطليعة، 1982، ص: 6)
والحق أن هذا القول له وجاهته التاريخية والفكرية في مجتمعاتنا العربية باستدعاء الماضي والاتكاء عليه ورسم الحاضر أو المستقبل وفقه دون نظر استراتيجي يتجاوز اللحظة الزمانية المراد تصنيفها أو الحديث عنها، فالتجربة والمحتوى المضموني جديد التعامل معه في البلدان ذات الطبيعة النامية مما يقلل من النظر التفكيكي للأشياء بالنظر التحليلي العميق لفهم الظاهرة السياسية وخطاباتها المتأتية فعلا من جمهور يستسيقها ويتفاعل على صيغة التكييف معها.
ولا تبتعد الحالة الموريتانية كثيرا عن فضائها العربي والإفريقي من حيث التجربة وضعف الخطاب السياسي وتمايزه ودوره في صناعة التغيير السياسي المنبثق من روح المواطنة الصادقة و التفاعل السلطوي بين الجمهور العام والنخبة في إطار يصنع الجدة في التعبير والأسلوب ونوعية الأفكار المقدمة في هذا المجال.
ولعل من البدهي هنا أننا لا نسعى إلى تطبيق النظرية الانقسامية لمجتمعات لديها قيم ترتكز على نوع من التعاطي يقرب الفرد القريب (بالمفهوم النسبي) بوصفه الأمثل والأقدر والأجدر في تصنيف يدل على انتقائية تجعل الآخر مغايرا إلى حدود العداوة، فالمواقف الوسطية غير المنتمية لا تجد عنوانا لها في البلدان السياسية الخاضعة لهذه المرتكزات.
على أن هذه التجربة السياسية الموريتانية الوليدة عانت جدا مثل مثيلاتها من طبيعة النشأة وروافدها وحاجة هذه البلدان للقدرات المساعدة التى تخلق النخب والتنمية المحلية للبلدان ذات الطبيعة النامية، وهو أمر ارتكز على أمرين نحسب إيرادهما من الأهمية بمكان و هما:
- التحول من الأنماط التقليدية على المستوى الشكلي وتبدل الخطاب فى الأحكام بمنطق المدارات واستغراق الذمة والخطاب القبلي الداعي إلي رص الصفوف والبحث عن كل ما من شأنه أن يشكل مرجعية قوامها وسندها إيجاد المتخيل السلطوي الغائب الحاضر .
وقد كان هذا التحول مدفوعا باللحظة المعاصرة من جهة والسياق الدولي وتبدل الأحوال التى عايشها القوم من جفاف ومن استحداث مدن تتعانق فيها المصالح والدعة والترف فى الأرزاق والمنازل، والحق أنه فى مبدئه لم يكن تصورا مؤسسا على فكر سياسي أو تحول عميق شهده المجتمع على الرغم من التصدعات المشهودة والمعروفة فى تلك الفترة، برغم ما كان الأمر هجرة منطقية لمجموعة من التراكمات بينة وواضحة فى تاريخية المجتمعات فى بحثها عن كل ما من شأنه أن يساهم فى رخائها واستقرارها.
- التأسيس للدولة المعاصرة بعد فترة طويلة من النضال على المستوى النخبوي ومناقشة الأفكار واختلاف وجهات النظر على أساس من الميراث الاستعماري أو الأبعاد المختلفة الأخرى التى كانت محل نقاش مستفيض من النخبة وقادة الرأي، ورغم أن هذا الأمر تمحور فى مواضيع من قبيل الهوية وطبيعة النشأة انسجمت هذه الآراء كلها وتآلفت رغم الاختلاف البنيوى لتتشكل الدولة المعاصرة، وليعيش الساكنة لحظة فارغة من تاريخهم يتراءى فيها الانسجام والوحدة المفقودة.
وعلى الرغم من التضحيات الجسام ودور النخب المعارضة أو المثقفة في الشكل الحديث فإنها كانت آراء سياسية نخبوية تسير فى اتجاه واحد، ولم تكن بذلك الأثر الشعبي الصاخب، بدليل عدم استيعاب اللحظة الاستقلالية ومواكبتها طيلة مراحلها، بالإضافة إلى غياب الاجتهادات الشرعية المواكبة لتلك الأحداث الجسام والتطورات المتسارعة المتكيفة مع اللحظة المعاشة لعامل بسيط يفهم حين قراءة المتخيل السياسي والأنماط المعتمدة فى تأسيسه.
و رغم أهمية الفعل السياسي وتجسيده في حركات تجاوزت الفعل القبلي في شقه السياسي النفعي وأعطت تصورات تتجاوز الفردانية إلى مجتمع الدولة فإنه سرعان ما انكسرت وتقلصت هذه الطموحات المشروعة والواعدة جدا في المجتمعات ذات الطبيعة البدوية التى تنبذ كل جديد يسعى إلى تفكيك الفعل السياسي المنتج والراعي لما يمكن أن نسميه تجوزا " إنتاج الطبقة السياسية المسيرة للنظام السياسي" المراد تطبيقه في هذا البلد بغض النظر عن الانتماءات المعاصرة التى أنتجت في البيئة الموريتانية وصارت وازنة في المشروع المجتمعي .
وعموما فقد كانت هذه الحركات السياسية بغض النظر عن طبيعتها حاكمة أو عكس ذلك لها إسهامات جادة في بناء متخيل سياسي أحيانا يقترب من الواقعية والتعاطي الايجابي مع القضايا السياسية المعاشة واتخاذ مواقف شجاعة خلدت في تاريخ هذا البلد.
غير أن ما نقصده هنا يختلف عن هذا الطرح جذريا فالأحزاب السياسية لا تبني على قرار أو تمثيل أو مناصب معينة بقدر ما هي خطابات تصوراتية للحكم عبر زمن طويل نسبيا على أسس هيكلة تتجاوز الطرح العام في طبيعة الحزب أو مبادئ عامة قد تكون خارجة عن السياق المعني، مما يستدعى عقدا سياسيا جديدا في مفهوم العمل السياسي ذاته والهدف منه ورسم خارطة جديدة مبنية على توافق مجتمعي يعبر عن توازنات وخيارات جادة في مسيرة التنمية وبناء الدولة.
ولعل انطونيو غرامشي كان ذكيا في طرحه حول الحزب السياسي القائم على أفكار مما عدده في ثلاث نقاط رئيسية كان مرتكزها عنصر القناعة والانتشار والإيمان ثم عنصر التفاعل والتلاحم مما يقوى هذه الحركة ويجعلها فعالة، ثم عنصرا ثالثا يربط بين الاثنين ماديا ومعنويا .
حقا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت إلى مراجعات متأنية حول العملية السياسية وخطاباتها مركزين على المشكلات العويصة التى حدت من أثر هذه الأحزاب وارتباطها بلحظتها الزمانية التى أنتجتها مما يمكن وضعه في النقاط التالية:
- الابتعاد عن الأشكال المعتمدة في الفعل السياسي والنظر إلى التصورات القبلية كآراء فى الحكم لها قدسيتها والتحول تدريجيا من النمط القبلي المؤسس ثقافيا واجتماعيا إلى معايير تنتهج الوطنية والمصداقية الأخلاقية فى بناء دولة معاصرة ينسجم فيها الجميع بمبدأ الإخاء، وعدم الإحساس بالغبن بأنواعه ومضامينه المقصودة هنا.ـ
- تجاوز الفرد إلى خطابات سياسية جامعة بنيوية الطرح عميقة الأثر في الرؤى والمضامين تنتهج الخطاب المعاصر في التنافسية وعدم الاقصاء والتركيز على الثوابت الوطنية المسلم بها على الأقل نظريا بين الجمهور.
- إقامة ندوات علمية جادة في سبيل التغلب على المشكلات التى يعانى منها الخطاب السياسي بين مفهومين حددا بشكل كبير مساره وقوة نضجه، على أن ثمة اشكاليات كبيرة عولجت وبحث فيها أكثر من مبحث كانت خارج النص، بمعني آخر معرفة الأسباب معينة على التأويل من أجل فهم المعادلة السياسية، فقد كان البحث السلطاني وكيفية ما يكون عليه الحاكم تصرفا ونظرا حائزا على عدد كبير من المتون الفقهية من باب الترف الفكري أو مسايرة تأليفية لتصانيف مشهورة في الفضاء الاسلامي، ولعل من الطريف فى المسألة و المدعاة للتأمل فعلا أن هذه التصورات أعدمت أو تجاوزها الرقيب الثقافي حال وجود ما يمكن تسميته تجوزا بداية الدولة الحديثة المنضوي تحت لوائها الجميع بمبدأ العدالة والحق والمساواة.
- تجديد الخطاب السياسي بمصطلحات نخبوية تراعى الظرف المعاش فالعمل السياسي لا بد أن يكون ناضجا في الطرح والأفكار يملك كل المقومات لروح اصلاحية عميقة الأثر والمردودية,
- تجاوز ما يمكن تسميته بنظام التقية في عدم حسم القضايا الحزبية الكبرى والركون إلى قيم مخالفة لهذا الطرح واستغلالا للبنية الاجتماعية وتفاعلا معها حين المواسم والاستحقاقات والمزايا والحظوظ.
- رسم سياسة تشاركية عبر نقاش جدي يفضي إلى إعادة تأسيس الحزب السياسي وفق قوالب جديدة.
- العمل على خلق سياسات تربوية من خلال العمل على تأسيس المدرسة الجمهورية التى ينسجم فيها الجميع وفق قواعد الانتظام الجامعة.
وختاما لهذه العجالة تبدو الخطابات المتشنجة والمغاضبة تتسارع كثيرا إلى القلوب في نهج غير سليم ويعبر عن أزمة معرفية حقيقية تستدعى من القادم إلى كرسي رئاسة الجمهورية تأسيس عقد سياسي جديد قوامه المشاركة والفاعلية الجادة في رسم معالم مستقبل واعد تكون الاستقلالية في الطرح والواقعية الحزبية مرتكزه وأساسه .