لقد أصاب هذا الوطن ضرر بالغ بسبب مرض التقوقع "الإديولوجي" المعشش في عقول وقلوب أغلب –حتى لا أعمم-النخب المتعاقبة على قيادته منذ أمد ...
تعتقد هذه النخب تقريبا أن من وافقها و سايرها قديس و ترى من خالفها إبليسا ... لا يرون إلا لونين الأبيض و الأسود... الأبيض الناصع لونهم و الأسود لغيرهم ... شعارهم من لم يكن معنا فهو ضنا!...
و النتيجة التي آل إليها حال البلد بعد عقود هي –بإختصار- ما نراه من تصارع و تنابز بالألقاب و خوض لمعارك وهمية لا ناقة لهذا الوطن فيها و لا جمل و لا مسوغ لها إلا ما يتفاعل من سراب في عقول تلك النخب الموقرة...
بلدنا يحتاج الى جيل جديد معافى ... يركز و يصوب نظره نحو الوطن... يعمل بجد و تفان و إخلاص و صمت ... هدفه أن يجعل من بلده شيئا مذكورا... يمتنع عن خوض المعارك الوهمية التي يثيرها الهواة... معركته الوحيدة مع الجهل و الفقر و المرض و الاستبداد و الفوضى ... يؤمن بوطنه و بأن هذا الوطن يمكن أن يكون بالفعل وطنا عظيما إذ يمتلك كل المقومات لذلك من شعب ذكي و متنوع و من موارد طبيعية غنية و من تاريخ و جغرافيا تتيح له فرصا عظيمة للسيادة يجب أن لا تضيع.
هذا الجيل الواثق و المؤمن بوطنه يجب أن يعمل على تحقيق أشياء مهمة لهذا البلد ... أولها الأمن و الهدوء و الإستقرار ... و ثانيها هزيمةالجهل و نفي الفقر من ربوع الوطن... و ثالثها بناء دولة مؤسسات حقيقية تؤدي فيها المؤسسات دورها كاملا وفقا للنظم و المساطر و يحتل فيها الأفراد الأدوار التي تناسب قدراتهم و كفاءاتهم...
من الملاحظات التي تترك أثرا عميقا في النفس ما لاحظه صاحبي ذات فسحة و نحن في ساحة عمومية في عاصمة دولة يثق مواطنوها ببلدهم فيخدمونه و بذلك يخدمون أنفسهم... قال صاحبي و هو يتأمل تلك الساحة "الحديقة" الواسعة الخضراء في وسط ذلك الحي: "لو كانت هذه الساحة في موريتانيا لأجهزوا عليها دون تأخير و لتقاسموها قطعا أرضية بينهم و لقطعوا أشجارها و كنسوا عشبها و داسوا أزهارها ثم حولوها بعد ذلك أسواقا و حوانيت في طرفة عين"!... أراد صاحبي أن يقول إننا شعب يؤمن فقط بالمنفعة الذاتية و يكفر بالمنفعة العامة و بالصالح الجمعي... المهم عندنا هو ما سيستقر في جيب كل واحد منا و ليبقى بعد ذلك الجيب "الجمعي" فارغا و ممزقا...
لقد حان الوقت لخلق وعي جديد بالوطن مختلف عما ساد وجداننا حتى اليوم ... و إذا لم نفعل فعلينا أن نتوقع الحصاد الذي كنا نجنيه في كل مرة... إذ "لا يمكن حل المشاكل المزمنة بنفس العقلية التي أوجدت تلك المشاكل".
علينا أن نؤمن بأنفسنا و بوطننا و بما يمتلكه من قدرات و ثروات و خيرات ثم ننطلق بعقلية مختلفة لنصل ببلدنا الى وضع يجعلنا نفخر بالإنتماء إليه و يجعل من تنافسنا فيه قيمة و معنى... لا معنى للتنافس في ساحة يعشش فيها الجهل و الفقر و المرض و تخيم فيها الفوضى و يعلو فيها صوت التنابز و التراشق بالألقاب ... و لا قيمة للفوز في مثل تلك الساحات.
علينا أن نفهم و نعي أن خدمة الوطن هي في نهاية المطاف خدمة لنا جميعا و هي أيضا خدمة لكل واحد منا في نفس الوقت...ثم علينا أن نتصرف وفق ما يقتضيه ذلك الفهم و ذلك الوعي...و خير الكلام ما قل و دل.