كنت قد كتبت هذه الأسطر سنة 2015 للميلاد في ظروف إجتماعية وسياسية شبيهة حد التطابق بالظروف التي نعيش اليوم في عالمنا العربي لذلك قررت نشرها من جديد مع قليل من التصرف.
تتقاطع دولة كندا، ذات الولايات المتعددة بمناخها القطبي البارد، مع العالم العربي ذي الدول المتعددة بمناخه القاري الحار، في العديد من نقاط التشابه الملفتة للانتباه! فهما يتشابهان من حيث الكثافة السكانية المنخفضة (حوالي 3.33 مواطن للكيلموتر المربع)، كما أنه في الوقت الذي توجد في العالم العربي مساحات شاسعة معدومة السكان، نظرا لوعورة الأرض الصحراوية القاحلة وعديمة المياه، فإن نفس الظاهرة توجد في كندا نظرا للتضاريس القاسية وأحوال الجو المميتة أحيانا، إلا أن ظاهرة التمايز الحضاري والثقافي التي تطبع العالم العربي والشعب الكندي تعتبر نقطة التشابه التي شدت انتباهي و استرعت اهتمامي أكثر من غيرها، لأن مستوى التعاطي معها من أهم محددات مدى وعي الشعوب و قدرتها على التعايش من أجل الوحدة و البناء.
يتكون الشعب الكندي من عدة مجتمعات تختلف في العرق والحضارة والثقافة واللغة والدين، فهناك الإنجليز والفرنسيون والشعوب الأصلية (First Nation) والمهاجرون الجدد كل بلغته وحضارته وثقافته وديانته وهم يتعايشون جميعا في جو من السلم الاجتماعي والإحترام المتبادل من أجل بناء الدولة الكندية التي تقوم من جانبها بحماية كل الأقليات على الأرض الكندية أينما وجدت فمثلا تقوم الدولة الكندية بحماية الأقلية الإنجليزية في الولايات ذات الأغلبية الفرنسية والعكس صحيح، حيث تقوم بإنشاء وتمويل مؤسسات يعهد إليها بتلك المهمة الحضارية النبيلة.
لقد شاءت الأقدار مرة ،وأنا ابن الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، أن يعهد إلي في ولاية كندية بإدارة إحدى تلك المؤسسات لحماية الأقليات المتواجدة هناك (الحماية الثقافية والحضارية) فكانت تجربة رائعة جعلتني أعيش أهمية احترام الشعوب وثقافتها في إحداث السلم الإجتماعي وإثراء التعاطي الإيجابي واستنهاض الحس الوطني.
لن أتحدث عن تلك التجربة كلها ولكن، في إحدى المرات قمنا بتنظيم ندوة ثقافية كبيرة لصالح بعض الأقليات حضرها وفد رفيع من البرلمان الكندي كان بعض أعضائه على مستوى عال من الثقافة والتجربة وأثناء الحديث معهم قلت لأكثرهم خبرة : "لماذا تنشئ الدولة الكندية وتمول هذه المؤسسات من أجل حماية الأقلية في ولايات الوطن الواحد؟ أليس من الأصلح إنشاء برنامج وطني موحد وإجبار كل فئات المجتمع على تطبيقه ثم نقوم بتصحيحه كلما رأينا خللا؟ !!إنه وبحق سؤال من الجانب الآطلسي الآخر!!
تمهل النائب قليلا ليتأكد من السؤال واسترسل قائلا:
"إن الشعوب لا تجبر على بناء دولها وإنما تشرك في ذلك البناء ثم إن إشراك الشعوب في عملية البناء إنما يبدأ باحترام خصوصيتها الثقافية والحضارية" تطور الحديث وتعمق لنتعرض للعديد من المواضيع الفكرية الهامة ربما أحدث لكم من أمرها ذكرا.
عدت إلى البيت بعد انتهاء الندوة وبت أسائل نفسي كيف يمكن لهذا الشعب الكندي المهاجر في أغلبه والمتوطن أرض غيره أن يأتي بهذا الكلام الرائع وهذه التجربة الحضارية الراقية فيحول بذلك اختلافه الحضاري والثقافي إلى منبع للوحدة الوطنية ومشرب للسلم الاجتماعي دون أن يتسنى لشعب آخر أصيل يستوطن أرضه ويتسلح بأرقى التراكمات الحضارية وعلى الضفة الأخرى من المحيط أن يأتي بنفس الكلام ونفس التجربة أو أحسن من ذلك؟ لا ينقضي عجبي من تلك المفارقة العجيبة!!
إن الاختلاف الحضاري والثقافي في المجتمع الواحد ليس عائقا أمام الوحدة والبناء إذا ما تم الإعتراف به والتعامل معه بشكل إيجابي وحضاري، إنه ورشة للتعاطي الثقافي والحضاري ومخزن للسلم الاجتماعي، وهنا أقترح على المؤسسات العربية الدولية وعلى رأسها جامعة الدول العربية أن تقوم بشراكة حقيقية مع المؤسسات الكندية وخصوصا الإجتماعية والتنموية للإستفادة المباشرة وفي أسرع وقت من التجربة الكندية الرائدة في مجال النهوض بالمجتمع نحو المستقبل ومعالجة الفوارق الإجتماعية و الثقافية والحضارية والتنموية بصفة عادلة و إيجابية.
لقد آن لقادتنا أن يدركوا أن الذين يصيحون في وجوههم رافعين شعارات تميزهم عن غيرهم ليسوا أبدا خطرا على الوحدة الوطنية بل قد تتعجبون إذا قلت لكم إنهم بصيحاتهم هذه وشعاراتهم تلك إنما يعبرون عن وعاء حسي دفين داخل أحشائهم امتلأ بالوطنية ليتدفق على نار الظلم الحضاري والثقافي أدركوا ذلك أم لم يدركوه، إن صراخهم داخل وطنهم للتعبير عن حقيقتهم المغيبة خطأ لأكبر دليل على وطنيتهم أدركتم ذلك أم لم تدركوه.
أيها المواطن ..... إن الذي يصرخ متألما داخل بيتك لا بد أنه حتما يشعر بالانتماء إلى ذلك البيت فإذا احتضنته وأزلت آلامه كنت بالنسبة له ذلك الأخ العزيز الذي يحترم انتماءات أخيه و آلامه، أما إذا دفعته خارج بيتك كنت بالنسبة له شيئا آخر وسيكون صراخه خارج البيت أشد وقعا وأكثر إيذاء وسيفتح الباب واسعا أمام المتطرفين في الداخل والخارج عن قصد وعن غير قصد لتطبيق نظريات شيطانية مدمرة هي أخطر ما يعانيه العالم العربي اليوم.
-- طابت أوقاتكم--
باب بن الشيخ سيديا ، مقيم في كندا.