تُطرح المسألة اللغوية بشكل متكرر أثناء الحديث عن الإصلاح التعليمي في كثير من البلدان. في محيطنا العربي والإفريقي وفي دول أخرى عديدة من العالم. وعلى الرغم من أن نقاش لغة التدريس يتم استغلاله سلباً (موالاة ومعارضة له) لأسباب ثقافية وعرقية في أحايين كثيرة، فإن ذلك لا يمنع من إثارة هذا الموضوع بشكل متكرّر، لتعلقه بمجال حيوي له انعكاساته الكبيرة على التنمية والثقافة والانسجام الاجتماعي.
بداية، من نافلة القول أن التدريس باللغة العربية، أو أية لغة أخرى، لا يشكّل حلّا سحريا لمختلف المشاكل التي يعاني منها التعليم في بلادنا. لكونها متعدّدة الجذور والأسباب، يتطلب حلّها مقاربة متكاملة تشمل المعلم والبيت والمناهج والبنية الإدارية. وإنما يهدف الحديث هنا إلى إبراز دور لغة التدريس في بناء الأسس المنطقية ومنطلقات الفهم والاستيعاب لدى الطّالب. والتأكيد على كون اللغة الأقرب لذلك هي اللغة الأم للتلاميذ والمدرسين (لغة البيت والثقافة). مع أن هذا لا ينفي أن ذات الهدف متاح أيضاً بلغات أخرى، كما هو حاصل في دول عديدة، إلا أن ذلك في الحالة الموريتانية يتطلّب جهداً إضافيا كبيرا، لبناء ثقافة فرنسيّة حاضنة، يعدّ تعميقها ضروريا لنجاح التعليم، وخاصة في مجالات علومه الإنسانية.
يلاحظ آباء التلاميذ، ممن يتابعون تعليم أبنائهم بشكل مباشر، أن العقدين الماضيين (بعد فرنسة 1999) شهدا ضعفاً كبيراً في المستويات اللغوية للطّلاب. ويدركون، بشكل خاص، مدى تأثير ذلك على استيعاب أبنائهم للمناهج التعليمية. حتى إن الطالب المتفوق في الباكلوريا (في العشرة أو العشرين الأولى على المستوى الوطني) ليحتاج إلى أخذ دروس تقوية في اللغة الفرنسية عندما يذهب لمتابعة دراسته في فرنسا أو السينغال مثلا. وأتكلم هنا من منطلق معايشة العديد من هذه الحالات.
وقد لاحظت شخصيّاً بشكل مبكر، بسبب تجربة التعدد اللغوي خلال دراستي(بما في ذلك دراسة التخصّص العلمي باللغة الأم)، أن الضعف الحاصل عندنا في مستويات فهم الطلاب لغوي في أحد أبرز أبعاده. فكان الطفل من أفراد العائلة، ممن أتابع دراستهم بشكل شبه مباشر، إذا ضعف أداؤه في أية مادة علمية، كالرياضيات أو الفيزياء مثلاً، يكون الخيار الأول له أخذ وقت إضافي لتدريس هذه المادة وشرحها ب 'الحسّانية' (وهو الخيار الأفضل والأسرع أثراً)، أو إعطاء هذا الطالب دروساً مكثفة في لغة التدريس (الفرنسية) لتعميق الحيز اللغوي والثقافي لها لديه. ويكون لهذين الأمرين انعكاس واضحٌ على أدائه العلمي المستقبلي.
طبعاً، لا يصلح التمثيل في موريتانيا بنسبة النجاح المرتفعة نسبيا (على ضعفها هي الأخرى) في الشعب الرياضية أو التقنية، مقارنة بشعبة الآداب (23% مقابل 1% هذا العام)، على عدم محورية دور اللغة الأم في الاستيعاب. فالاختصاصات العلمية تحتاج، في الدروس والمراجع والبحث، إلى القليل من مفردات اللغة. كما أن التوجيه إليها، وهذا هو الأهم، يقتصر على أجاويد التلاميذ وأذكيائهم. ولذلك ظلت في الماضي مستويات نجاح هؤلاء، وستظل مع استخدام أي لغة، هي الأعلى من بين كل الشعب. وليس هذا في بلدنا فحسب وإنما في غيره من البلدان التي نتقاسم معها نفس سياسة التوجيه العلمي. ولذات الأسباب، المتعلقة باستثنائية المستوى العلمي، ينجح، بل يتفوق أحياناً، طلابنا المبتعثون للدراسة بلغات أخرى، كالروسية والألمانية والإنجليزية، لأنهم خيار الخيار.
ويعتبر الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة المتضرر الأكبر من فرنسة لغة التدريس في موريتانيا. ولَو حصلنا على بيانات دقيقة عن طلبة الباكلوريا خلال الأعوام الأخيرة لوجدنا أن جميع الناجحين تقريباً هم من منتسبي المدارس الخصوصية. وأن القلة الناجحة من مدارس الامتياز أو الثانوية العسكرية تم الإنفاق عليهم ليلجوا إلى تلك المدارس أو بالتوازي مع الدراسة فيها. وطبعاً لن يحلّ تعريب لغة التدريس وحده هذا الإشكال المادي، وإنما يؤمل منه توسيع دائرة العون المنزلي في المراحل التعليمية الأولى، وتحسين استيعاب الطلّاب، وزيادة فرص الحصول على مدرّسين أكفاء.
بقيت الإشارة إلى أن المجتمع الموريتاني، وإن تعددت أعراقه وخلفياته الثقافية، فإنه، كما هو معلوم، مجتمع مسلم بالكامل لله الحمد. وبالتالي فاللغة العربية أولى أن تكون لغة جامعة له دون سواها من لغات التدريس. هذا طبعاً مع وجوب الالتزام بحفظ الحقوق المهنيّة لجميع المواطنين مهما كانت لغة تكوينهم التّعليمي. ومع أن موريتانيا من البلدان التي لا تقوم بالإحصاء على أساس إثني، فإنني أكاد أجزم بأن فرنسة التعليم لم ترفع نسبة نجاح طلاب أي عرق دون آخر، ولَم تؤدّ إلى تساوي الفرص بين الجميع كما يقول البعض. وأن هذا الأمر يستند إلى صراع النخب القومية على المصالح السيّاسية أكثر من اعتماده على الدراسات العلمية التجريبية.
أما الحديث الذي يميل إليه آخرون عن كون اللغة العربية لغة 'غير حيّة' أو 'غير علميّة' ففيه تجاوز كبير للواقع اللغوي للعلوم المعاصرة، وتكذبه شواهد الماضي والحاضر. وفي التجربة السوريّة ردّ عملي عليه، وعلى المهوّلين من صعوبة مواكبة منتجات العلم الحديث باللغة العربية، وبعظم المتطلبات المادّية لذلك. فقد تمّ تعريب الطب والهندسة في سوريا سنة 1919 كمقاومة علمية للاستعمار الفرنسي، بعد خروج الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك استطاعت سوريا يومها رغم الفقر والاحتلال أن تزوّد المشرق العربي فيما بعد بنصف حاجته من الأطباء. وهي البلد الذي لو قيس الآن حضور نخبه العلمية في الغرب (رغم اختلاف اللغة) لوُجد أنه، تناسباً مع الكثافة السكانية، يمتلك الحضور العربي الأبرز.
وأخيراً، يمكن القول باختصار بأن موريتانيا، وبقية البلدان العربيّة والإفريقية، لو درّست التخصّصات العلمية بلغاتها المحليّة لحصلت على نخب أكثر كفاءة، وأقدر على التواصل مع المواطن والرفع من وعيه، ولحسّنت من حظوظها فوق ذلك في الإسهام في الإنتاج العلمي العالمي (وفِي اليابان وتركيا والصين وإيران وكوريا الجنوبية أمثلة كافية). فاللغة الأقرب والأقدر على بناء أسُسك المعرفية ومنطلقاتك العلمية الاستيعابية بعمق هي لغة العلم بالنسبة لك حتى ولو تحدثتها مدينة واحدة.
د. عبد الله بيّان