مرت عشرون عاما على اعتماد موريتانيا مشروع الإصلاح التعليمي لسنة١٩٩٩ الذي عرف يومها بمحاولة توحيد النظام التربوي في شعبة واحدة مزدوجة، بعد أن كانت العملية التربوية تتم في شعبتين مختلفتين إحداهما تعتمد اللغة العربية لغة للتدريس بينما تعتمد الشعبة الأخرى اللغة الفرنسية لغة للتدريس، ومع اعتماد هذا الإصلاح الجديد صارت اللغة الفرنسية هي "لغة التدريس" رسميا في جميع مراحل التعليم بدل اللغة العربية وصار لزاما على التلاميذ التأقلم مع هذه اللغة الجديدة طيلة مسارهم الدراسي من الابتدائية مرورا بالإعدادية ثم الثانوية.
بهذه اللغة يتم تدريس جميع المواد العلمية من الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية حيث أن هذه المادة الأخيرة يبدأ تدريسها للأطفال بدءا من السنة الخامسة ابتدائية وباللغة الفرنسية أيضا !
إن تقييم أي نظام تعليمي وتحديد نسب نجاحه أو فشله لابد أن يمر حتما بتقييم مخرجاته ابتداء بعدد الخريجين وكفاءاتهم ونسب اندماجهم في سوق العمل، وبالنظر إلى نسب النجاح في الامتحانات الوطنية خلال العشرين عاما الماضية يتضح لنا حجم الكارثة التي أصابت التعليم في هذه الربوع حيث تراجعت بشكل كبير نسب النجاح في الباكالوريا والشهادة الاعدادية وكذلك مسابقة دخول السنة الأولى إعدادية مع ارتفاع ملاحظ في نسب التسرب المدرسي وعزوف الأطفال عن الالتحاق بمقاعد الدراسة. ثم إن النسب القليلة من الطلاب الذين تمكنوا من تجاوز عقبة البكالوريا يتضع جليا ضعف مستوياتهم في اللغة الفرنسية وكذلك اللغة العربية وقد يعود ذلك أسباب من ضمنها بالتأكيد ضعف الأساتذة والمؤطرين في هذه اللغة التي صارت تشكل عائقا لابد من النظر فيه من جديد.
إن لغة التدريس من أخطر العوامل تأثيرا في جودة التعليم وهذا معلوم عند المتخصصين في علوم التربية وجميع الدراسات الحديثة تؤكد أن تدريس الأطفال بلغتهم الأم يساهم بشكل كبير في استيعابهم للمادة المدروسة وإتقانها والابداع فيها ولم يعد هناك خلاف في دور اللغة الأم في تكوين الطفل وتميزه. من المعروف بداهة أن اللغة الأم للطفل هي تلك اللغة التي يستمع لها منذ أن كان جنينا في بطن أمه ثم يواصل الاستماع لها بعد الولادة، يبكي بها ويضحك بها ويطلب الشراب والطعام عندما يعطش ويجوع، يستمع لها في المنزل والشارع وفي المعلب مع أقرانه، هذه اللغة من المفروض أن يتلقى بها تعليمه في المرحلة الابتدائية والاعدادية حتى يتجاوز للمرحلة الثانوية ليصير حينها ناضجا ثقافيا، ساعتها يمكنه الشروع في تعلم أي لغة أجنبية ثانية وثالثة ولن يكلفه ذلك كبير عناء.
عندما نتخيل طفلا صغيرا في الخامسة من عمره، يخطو خطواته الأولى نحو التعلم واكتشاف معارف جديدة وأمامه الكثير من العراقيل، يدرس بلغة أجنبية غريبة عليه، لا يسمعها في البيت ولا في الشارع، حتى المدرس الذي يدرسه لا يتقن هذه اللغة، يعني أن هذا الطفل ملزم ببذل جهود مضاعفة فوق طاقته في فهم اللغة أولا وبعد ذلك محاولة فهم المادة العلمية الخام، هؤلاء جميعا غرباء، المدرس والتلميذ، وآن الوقت للنظر لحالهم وإنصافهم بدل التمادي في اعتماد مقاربات تربوية أثبتت فشلها بعد عشرين عاما من التطبيق.
العالم اليوم صار أكثر إدراكا لأهمية التعلم باللغة الأم؛ التجارب والدراسات الميدانية التي تناولت الموضوع بإسهاب تؤكد أن التعلم باللغة الأم يعد الحافز الأول على الإبداع عند الأطفال والتميز في اكتساب العلوم والمعارف، الدول الرائدة في مجال التنمية تنبهت لذلك وألزمت في تعليمها لغاتها الأم وكذلك في تعاملاتها اليومية. الأمر صار محسوما ولم يعد مطروحا للنقاش. أفضل الدول الرائدة عالميا تدرس جميعا بلغاتها الأصلية، أفضل ٥٠٠ جامعة عالمية في ٣٥ دولة متقدمة صناعيا تدرس جميعها بلغاتها الأم.
ينبغي الانتباه والتفريق بين مفهومين مختلفين يراد لنا دائما الخلط بينهم - ربما عن حسن نية - هما "لغة التدريس" و "تدريس اللغات الأجنبية". لغة التدريس تعني لغة التكوين لشخصية الطفل المقبل على الحياة وهي عامل أساسي لإنضاج هويته وانتمائه ونظرته للكون والحياة والناس، ويجب أن يتلقى بها جميع العلوم والمعارف في مراحله التعليمية الأولى – من روضة الأطفال مرورا بالمرحلة الابتدائية حتى الإعدادية - حينها يصير ناضج ثقافيا. التدريس باللغة الأم لا يعني أبدا أن اللغات الأجنبية ليست بذات الأهمية وإنما يؤكد فقط على أهمية ومحورية اللغة الأم بوصفها مكمن قوة وعامل أساسي في صنع مستقبل زاهر وآمن للمجتمعات. في المقابل يجب التركيز على تدريس اللغات الأجنبية – الفرنسية والانجليزية – بشكل مكثف ابتداء من المرحلة الثانوية وهذا ما سيمكننا من الحصول على تلاميذ أكفاء بعد تجاوز الباكالوريا يتكلمون ثلاث لغات حية وبمستويات متميزة – عكس لما هو حاصل اليوم-.
إنا نقاش المسألة اللغوية بموريتانيا هو نقاش طويل ومتشعب ومعقد لكنه ضروري وآن الأوان لبلورة أفكار ناضجة في الموضوع يمكن تدوينها بجدية ورفعها للجهات العليا التنفيذية -البرلمان والحكومة - لعل وعسى تجد آذان صاغية ويتم فتح نقاش جدي لتقييم واقع التعليم في موريتانيا واقتراح الاصلاحات المناسبة. لابد من الانتباه إلى حساسية هذا الموضوع والابتعاد به عن التجاذبات السياسية الإيديولوجية والعرقية فهو في النهاية موضوع وطني جامع يتأثر به كل الموريتانيين ويؤثر على مستقبل أبناءهم بشكل مباشر.
نعم اللغة العربية لغة غالبية سكان موريتانيا -مع الاعتراف بوجود مواطنين موريتانيين -لا يعتبرون العربية لغة لهم ويرتاحون أكثر للغة الفرنسية -وهذا حقهم الطبيعي -مع العلم أن الفرنسية ليست لغة لأي مكون اجتماعي بموريتانيا والجميع يبذل جهود كبيرة لتعلمها، -.
موريتانيا ليست استثناء من دول المنطقة، هناك تعدد لغوي رائع يمكن الاستفادة منه والبناء عليه بدل تمييع التعليم والإصرار على إفساده، أنا ضد القائلين بفكرة تطوير اللغات الوطنية وإدماجها في المنظومة التعليمية وذلك لعدة أسباب قد أشرحها لاحقا -هي في الحقيقة لهجات وليست لغات والفرق كبير لمن له إلمام بسيط باللسانيات وعلوم اللغة.
هذه اللهجات الوطنية ليست مؤهلة للتدريس وليس لدينا الجهد الكافي لبناء نظام صوتي وترميزي لكتابة هذه اللهجات، أفعال العقلاء مصانة عن العبث، - مثل هذه المشاريع تحتاج تمويلات مالية ضخمة بمليارات الدولار وكذلك كادر بشري وتقني رفيع لتطوير أنظمة ترميزية وأنظمة صوتية لكتابة هذه اللهجات ومعالجتها - تجربة المملكة المغربية المجاورة يمكن النظر فيها والاستئناس حيث أنشئت المغرب معهد ملكي للثقافة الأمازيغية قبل عشرين عاما بتمويلات مالية ضخمة كل سنة وكل هذا الاستثمار الضخم بهدف بناء أنظمة ترميزية وصوتية للغة الأمازيغية بغية دمجها لاحقا في التعليم حيث لا يتجاوز تدريس الأمازيغية في المغرب كونها مادة مسجلة على جدول الحصص في أغلب المؤسسات التعليمية الابتدائية دون أن يكون لها حضور فعلي في الثانوية والجامعة مما أدى لعدم وجود مدرسين لهذه اللغة، فهل لدينا امكانيات مالية مشابهة للتضحية بها في مثل هذه المشاريع الغير منتجة ؟
في جميع دول العالم هناك لهجات ولغات محلية لكل إقليم لكن بالمقابل هناك لغة رسمية وحيدة يجب على الجميع تعلمها ولا مساومة في ذلك، في بريطانيا يتحدث سكان المملكة عدة لهجات مختلفة لكنهم جميعا يتخذون من الانجليزية لغة رسمية للبلد، في ألمانيا لهجات كثيرة فالألماني القاطن بالجنوب ذو اللغة البافاريّة لا يفهم لهجة مواطنه القادم من شمال ألمانيا ويحتاج ترجمان للتواصل معه، حتى هنا بفرنسا هناك عشرات اللهجات التي تتحدثها الأقاليم الفرنسية المختلفة لكنها جميعا في طريقها للاندثار منذ فرضت حكومة باريس على جميع الفرنسيين استخدام اللغة الباريسية بعد ترسميها في الدستور الفرنسي واعتبارها لغة رسمية - وحيـدة – للجهورية !
إن التعدد اللغوي عامل ثراء وقوة ولم يكن يوما من الأيام عائقا في بناء نظام تعليمي متميز وناجح. إرغام الناس على تعليم أبناءهم في الابتدائية بلغة أجنبية ظلم كبير وتضييع لمواهب الأطفال وتجهيل لهم، لابد أن نضع في الحسبان اختيارات آباء التلاميذ واللغة التي يودون تدريس أبنائهم بها،غير ذلك تضييع للوقت وتفريغ لرسالة التعليم من محتواها فالعلمية التعليمية في النهاية ليست إلا تفاعل ناجح وإيجابي بين الطلاب والمدرسة والمجتمع.يمكن القراءة عن تجربة ماليزيا الاقتصادية والصناعية في النظام التعليمي، قبل سنوات أطلقت ماليزيا مشروع تعليمي طموح لإعتماد اللغة الإنجليزية في تدريس الرياضيات والفيزياء والعلوم التقنية في الإعدادية والثانوية بدل اللغة الماليزية، وبعد ٧ سنوات من التجربة قررت ماليزيا إيقاف هذا المشروع والعودة إلى التدريس باللغة الماليزية "المالوية" مع التركيز على تدريس مكثف للغة الإنجليزية كلغة أجنبية في الإعدادية والثانوية، وحسب ما جاء من تبريرات في القرار فإن السبب هو أن الدراسات التي أجريت على أكثر من ١٠ آلاف مدرسة ماليزية أثبتت فشل التجربة وأن التدريس بالإنجليزية (بدل اللغة الأم) أدى إلى تدهور خطير مستويات الطلبة وتدهور في مستوى أدائهم في الرياضيات والفيزياء - كما هو حاصل عندنا في موريتانيا-. خذ مثلا السويد المتقدمة صناعيا وعلميا، عندهم لغة يتكلمها ١٠ ملايين من البشر فقط، لكن لا مساومة في لغة التدريس، ناهيك عن ألمانيا واليابان سنغافوره وغيرهم.
في ضوء الوضعية الحالية لقطاع التعليم ببلادنا صار لزاما على الدولة الشروع بشكل جدي في اقتراح حلول عملية لهذا المشكل ولن يتم ذلك دون دعوة جميع الخبراء والفاعلين الميدانين في قطاع التعليم للجلوس معا على طاولة الحوار وتقييم الوضعية والخروج بحلول عملية قبل افتتاح السنة الدراسية المقبلة. وقبل أن يتم ذلك تظل المقترحات الفردية كلها واردة من العاملين في قطاع التعليم والمهتمين لحاله.
أستاذ المعلوماتية بالمعهد العالي للمعادن – موريتانيا
باحث زائر بجامعة تولوز - فرنسا