كنت بصدد كتابة مقال حول إمكانية تجديد الطبقة السياسية، انطلاقا مما أصبح معروفا ب:"ظاهرة ولد عبد العزيز"، التي استطاع من خلالها قيادة البلد لوحده سنوات عديدة، بعيدا عن حكومته المتكلسة ونخبته "الداعمة"، التي أصبحت" كالكلب الأطرش"- مع تقديري واحترامي لكل فرد منهم-، الشيء الذي
عري مقولة: استحالة التخلص من جيوش الجهلة والفاشلين الذين اكتسحوا الإدارة والديبلوماسية والإقتصاد وحتي الأمن والثقافة والصحافة، والذين دفع بهم الفساد إلي مقدمة ما كان لهم أن يفكروا فيها لعجزهم ولحاجة كل مسؤولية إلي من يتقنها ويجيدها، واقع توج آنذاك بقرار من النظام- الذي انقلب علي نفسه- بتوجيه حملة الشهادات العالية وذوي الإختصاصات النادرة إلي بيع الماء في الحنفيات، لذا لم يجد الكتاب من يقرأه وظلت الحنفيات في حنين دائم إلي فرسانها وسدنتها.
إلا أنني عدلت عن الفكرة عندما تابعت علي شاشة التلفزة الموريتانية برنامجا"حواريا" في نسخته الثانية بين طيفين سياسيين، يشكلان طرفي نقيض داخل المعادلة السياسية بالبلد، صمم لكي لا يتم التخاطب فيه إلا بالفرنسية، فتساءلت في نفسي، هل رأس النظام علي علم بهذا؟ فتذكرت أن هذه الحلقة هي الثانية من هذا" الحوار" الذي يجمع بين رموز من منسقية المعارضة – التي كان النظام يستجديها الحوار- وآخرين من الحزب الحاكم، فتأكدت أن أمرا كهذا لا يمكن أن يحصل إلا بعد تحضير وتنسيق بين القيادات الحاكمة وبالتالي فنحن أمام نظام يحرص علي مخاطبة فرنسا لوحدها ولا يقيم وزنا لشعبه المتعطش لمعرفة آراء ساسته.
واقع لا يمكن أن نبرئ منه التلفزة في ثوبها الجديد، فكيف ترضي أن تقدم" حوارا سياسيا محليا" بلغة لا يفهمها، سوي أقل من واحد في المائة من الشعب الموريتاني، فلمن توجه التلفزة الموريتانية برامجها إذن؟
إن نظرة لتسلسل الأحداث في ظل النظام الحالي، كفيلة بإدراك الحقيقة المرة:
1- الوزير الأول يعتذر باسمه عن تبن رسمي للعربية عكسه خطابه بقصر المؤتمرات بمناسبة تخص اللغة العربية.
2- الإعتذار الذي قدمه وزير التعليم للطلبة الزنوج في الجامعة بخصوص ما "أشيع" حول تعريب محتمل.
3- تعميق حضور اللغة الفرنسية في الصحافة والإدارة علي حساب اللغة العربية.
4- القسم أمام المجلس الدستوري باللغة الفرنسية.
5- رغم دستورية اللغة العربية إلا أن الإتفاقيات الدولية تنص في جانبها الموريتاني علي أن النسخة الفرنسية هي المرجع.
6- فرنسة فاتورات الكهرباء والماء ووثائق حيازة الأراضي بعد أن تم تعريب بعضها.
فرغم عدم إعجابي بمسلكيات نظام ولد الطايع، إلا أن هناك موقفا في هذا الإتجاه يذكر فيشكر ويتعلق الأمر بمقابلة أجرتها التلفزة الموريتانية آنذاك مع السيد: محمد السالك ولد هيين المدير العام- وقتها- للشركة الوطنية للصناعة والمناجم وأثناء بثها في التلفزة، اتصل ولد الطايع بالمدير العام للتلفزة وسأله: لماذا تجرون هذه المقابلة بالفرنسية؟ فأجابه مدير التلفزة بأن السيد المدير العام لاسنيم، قد يكون أقدر علي التعبير بالفرنسية، فرد عليه ولد الطايع قائلا: هل عجائز تنبدغة يعرفن اللغة الفرنسية؟ وطلب منه وقف المقابلة وإعادتها باللغة العربية وهو ما حصل.
هذا هو سلوك نظام كلنا له جميعا الشتائم وهللنا للمنقلبين عليه، اعتقادا منا بأنهم الأفضل والأحسن، فإذا بهويتنا تداس بالأقدام ومكانتنا الحضارية تتراجع، لنتحول إلي جمهورية ساحلية لا تاريخ لها مقدر ولا هوية لها تصان.
فإذا كان الموريتانيون محرومين من خيرات بلدهم، فيجب أن لا نسلبهم هويتهم الحضارية وميزتهم الثقافية وأن لا نمنعهم علي الأقل من متابعة ترهات ساستهم ومعرفة مضمون معاركهم الكلامية.
إنه مطلب سهل التحقيق ومعادلة مجزية للنظام، فالخيرات له والكلام للشعب، لكن شريطة أن يتم بلغة تعرفها ساكنة بوصطيلة وكرمسين.
فشرعية كل نظام تبدأ من احترامه لثقافة وتاريخ وقيم بلده، وما دام السيد الرئيس قد اختار أن يوصف برئيس الفقراء، فعليه أن يدرك من أمورهم علي الأقل، أنهم لا يعرفون الفرنسية وأن- لديهم من الفراغ ما يسمح لهم بمتابعة نقاشات الساسة و"تلفيقات الخصوم ".
هذا إذا كان السيد الرئيس حريصا علي أن يعرفوا الحقيقة، أما إذا كان الأمر عكس ذلك فليس هناك أفضل من مخاطبتهم بلغة لا يفقهون منها أي شيء ..ولتبارك "بلاد الغال" من وراء بحارها هذه الخيارات غير الوطنية والتي قد تنخر في جدار النظام أكثر مما تعزز من مكانته في هذه الربوع.
أما نحن فلن نحترم، سوي نظام يطبق دستورنا ويعزز لغتنا ويقيم وزنا لهويتنا، فمن سلبنا خيراتنا ثم هويتنا، فمن حقه علينا أن نجافيه ....أما هو فبسلوكه هذا يكون قد حدد خياراته وأعطي بالدليل القاطع مضمون سياساته.
محمد المختار ولد محمد فال
كاتب صحفي