أحيانا تكثر الأحداث الكبرى وتتراكم على الكاتب لدرجة يحار معها في إيجاد صيغة للتعامل معها جميعا بما تستحق من عناية وتحليل ونقد وتقويم..
وأحيانا تكون الأحداث صادمة لدرجة ينعقد معها لسان الإنسان وتجف الأقلام عن الخوض فيها تهيبا من أن تعجز عن وصفها الوصف الذي تستحق، وتنقدها النقد الذي تستحق، وتدينها الإدانة التي هي أحق بها وأهلها..
ومن مثل هذه الأحداث الأخيرة: مجزرة الدعاة إلى الله، والفيلم المسيء لرسول الله، والمناظرة التلفزيونية المسيئة لكل العباد من ساكنة هذه البلاد...
1) فتية آمنوا بربهم وزادهم هدى خرجوا في سبيله دعاة إليه؛ لا سلاح لهم إلا الإيمان الصادق، والدعوة إلى سيبل الرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فابتلاهم الله بصولة الضعفاء ممن عجزوا عن حماية وحدة بلدهم ومصالح أمتهم؛ فقالوا: "دونكم العزل الغرباء المسالمون؛ فاقتلوهم قتل عاد وإرم"!!
لا نملك عزاء في هؤلاء خيرا من قوله تعالى: "ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"... فما بالكم بمن كانت حياتهم كلها خروجا في سبيل الله: في بيوتهم وطرقاتهم وأماكن عملهم.. في بيعهم وصلواتهم.. في سرائهم وضرائهم.. في سرهم وعلانيتهم.. وفي كل صغيرة أو كبيرة من حياتهم..!
شهدنا بما علمنا.. ولا نزكي على الله أحدا.. فطوبى لكم أيها الخيرون الموعودون بالأجر الكريم، والثواب العظيم..
2) وجهلة مغفلون أشقاهم الله وأعماهم، فظنوا أن يقدروا على الإساءة لأشرف الخلق، وأعظم الخلق، وأصدق الخلق، وأحب الخلق إلى الخلق وإلى رب الخلق.. صاحب الشفاعة الكبرى والمقام المحمود..
فلا نجد ردا على أولئكم السفهاء أبلغ من أن نقول لهم: أيها الجاهلون؛ لقد أوتينا من العلم ما لم تعلموا، لقد آتانا الله قوله تعالى:
"إنا كفيناك المستهزئين"..
"فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم"..
"إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون"..
"ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون"..
فماذا بعد الحق إلا الضلالة؟!!
على كل حال؛ إن أولئك أعداؤنا يحاربوننا ويسيئون لنا؛ وليس في عدوان الجاهلين ما يستغرب، ولا ما يستبعد..
3) أما أن يكون العدوان منا وعلينا، والإساءة منا وإلينا، والجهل فينا وعلينا؛ فتلك لعمري شر البلية ومنتهى الرزية!!
بلد يعيش أزمة سياسية مستعصية، ويتطلع مواطنوه الطيبون كل يوم لكل حدث كبير أو صغير عله يحمل بشرى تنبئ بإمكانية خروج بلدهم المسلم المسالم من آسار تلك الأزمة، وتفتح لهم أبوابا ونوافذ جديدة للأمل في المستقبل؛ ثم تأتيهم البشرى فجأة: أن "ابشروا فالمتناحرون على مصالحكم ومصالح بلدكم قد اتفقوا على الجلوس على مائدة حوار مشتركة ستكونون أنتم شهدوها؛ لأن تلفزيونكم "الوطني" سينقل لكم وقائعها على الهواء مباشرة؛ لتحكموا على حجج وتصورات ومواقف كل طرف"..
وتحلق المواطنون الطيبون أمام الشاشات في الوقت الموعود (العاشرة من مساء الجمعة 14/ 09/ 2012)، وفجأة انفرج الستار لهم عن ثلاثة أشخاص لا يملكون من هويات الانتماء لهذا الشعب سوى أسمائهم الموريتانية، وبدأ مقدم البرنامج يتحدث برطانة لا يفهمها إلا "المقلون"..
ربما ظن كثيرون أن خطأ ما حدث في ضبط القناة، لكن شعار التلفزيون "الوطني" كان حاضرا ينبئ عن أن هذا هو تلفزيون الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وهذا هو الصحفي الموريتاني المتميز، وهذين هما القياديان البارزان في الموالاة والمعارضة، وهذه الرطانة هي ذاتها لغة سيد هذه الأرض ومن عليها: صاحب الدم الأزرق والعيون الزرق.. فما المشكل في كل هذا؟!!
الغريب في الأمر أن شعبنا يمكن أن يكون فقيرا في كل شيء (الثروات، النخوة، الوطنية، الاعتزاز بالنفس، والشعور بالانتماء والاعتداد به)، لكنه بالقطع من أغنى الشعوب في ميدان الثروة اللغوية؛ حيث حباه الله خمس لغات: العربية، البولارية، السونوكية، الولفية، والحسانية..
لكن المشكل، أن العم سام، وسيد هذه الأرض ومن عليها، لا يفهم أيا من هذه اللغات ولا يرضى عن مستخدميها؛ فلا يكون فيها ما يصلح لغة للتحاور في أمر ذي بال؛ أحرى إن كان أمرا يستقطب اهتمام الممولين والسادة الغربيين!!
ولأجل كل ذلك كان لابد لنخبتنا القائدة أن تبالغ في التنكر لذاتها وهويتها و"وطنيتها"، لإثبات أنه لا عقدة لديها ولا حرج عندها من جميع أصناف المسخ والفسخ، ما ضمن لها ذلك مرضاة السيد الأبيض؛ وليذهب هذا الشعب بقيمه ومثله ولغاته وضوابط دستوره إلى الجحيم!!
والحقيقة أن ما أظهره ذلكم البرنامج من انفساخ وانسلاخ أخلاقي وحضاري ليس بالأمر الجديد على أغلب نخبنا القائدة؛ إنما الجديد في هذا هو أنه استطاع أن يجمع كل عناوين تلك النخب على كلمة واحدة "سواء" هي الكلمة الفرنسية؛ فكانت الموالاة، وكانت المعارضة، وكانت المؤسسات العامة للدولة مجسدة في التلفزة الوطنية.. فماذا بقي من عناوين تلك النخبة؟!!
وماذا بقي عزاء لشعبنا في مصابه الجلل؟
لعله ما بقي لنا إلا أن نصلي ونسلم على الصادق المصدوق الذي حدثنا؛ متحدثا عنا فقال:
"لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه".
قالوا: آ اليهود والنصارى؟.
قال: "فمن!"..
أحسن الله صباحكم، مساءكم، وزوالكم....