عندما دخلت عليه في فندق أتلانتيك منذ عشر سنوات، وخلال حديث صريح وشيق ومقتضب عن وضع البلاد وأهداف حركته التصحيحية، اتفقنا على أمرين أساسيين هما: محاربة الفساد بصفته العدو الأول لموريتانيا، وصيانة مكاسب ديمقراطيتنا الوليدة. وقد طلبت منه في سبيل نجاح ذلك الاتجاه، المضي دون تردد في حوار داكار وقبول شرطي المعارضة آنذاك: إطلاق سراح سجناء الخطوط الجوية، وتأخير موعد الانتخابات! وقد فعل ذلك مشكورا.
واستمرت علاقاتنا ولقاءاتنا خلال عهده الميمون؛ وخاصة أثناء المنعطفات الحادة التي تمر بها البلاد من حين لآخر، لم يعكر صفوها شيء، لأنها مبنية على المصلحة العامة لا غير. وكنت على ثقة تامة أنه لن يتراجع عن الأهداف السامية التي رسمها هو وصحبه غداة الثالث أغسطس سنة 2005، وأنه لن يحنث بيمينه، ولن يعدّل الدستور بهدف الحصول على مأمورية ثالثة. وقد كتبت ذلك وصرحت به مرارا وتكرارا.
وصباح هذا اليوم (30 يوليو 2019) دخلت عليه في مكتبه مودعا وهو يتهيأ لتسليم مقاليد الحكم لأخيه وصديقه ورفيقه، فخامة الرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ الغزواني. وكنت من بدأ الكلام بعد تبادل التحية، فقلت له: "هنيئا لكم، وشكرا لكم - سيدي الرئيس- على جميع ما قمتم به من أجل وطننا موريتانيا! لقد دخلتم التاريخ من أوسع أبوابه حين أنقذتم وطنكم من الضياع والتيه فأعدتم لحمة الوحدة الوطنية، وحاربتم الفساد والإرهاب والفقر والتخلف، وحققتم الأمن والديمقراطية والنمو الاقتصادي وشيئا من عدالة التوزيع، وطردتم إسرائيل.. إلخ. فرفعتم بذلك شأن الوطن. ثم ختمتم عهدكم السَّنِيَّ بعد ذلك كله، وبعد تكريس احترام وصيانة الدستور، وإنجاز تداول سلمي للسلطة، بأعظم ما يحققه قائد لشعبه؛ ألا وهو تهيئة ودعم الخلف الكفء الصالح الأمين، بدل أن ينصرف ويترك أمور بلده فوضى على كف عفريت!
في رسالة شهيرة وجهتها إلى رئيس الدولة الجديد نشرت يوم 17 أغسطس 2005، ثم أعدت توجيهها إليكم بعد مجيئكم في أغسطس 2008 قلت: ليتنا نستطيع أن نخاطبك وقد أنجزت ما وعدت بما خاطب به متنبي عصرنا جمالا:
دخلت على تاريخنا ذات ليلة ** فرائحة التاريخ مسك وعنبر
وكنت فكانت في الحقول سنابل ** وكانت عصافير وكان صنوبر.
وها هو ذا حلمي يتحقق اليوم؛ لقد أنجزتم ما وعدتم على أحسن وجه. وها أنا أخاطبكم مباشرة بهذين البيتين؛ بل وأضيف معهما ثالثا من نفس القصيدة لأنه يصدق فيكم، وهو:
وأنت أبو الثورات أنت وقودها ** وأنت انعتاق الأرض أنت التحرر!"
فقال لي من جملة ما قال:
"ها أنا أغادر هذا الكرسي وأنا مرتاح البال! فما قمت به كان صوابا، لأنه يصب في مصلحة الشعب والوطن. لقد بذلت أنا وزملائي جميع ما بوسعنا من جهود في خدمة هذا الوطن، ونجحنا في مجالات كثيرة، وإن كان تقييم الناس لما قمنا به يختلف باختلاف الطبائع والأهواء والمصالح. وإنني لواثق ومطمئن بأن الوطن ومنجزاته في أيد أمينة، وأن مسيرة الإصلاح والحرية والديمقراطية والبناء والتنمية والأمن التي قدناها لن تتوقف، ولن تنحرف عن مسارها الوطني بإذن الله.
أنتم تتذكرون كم عانى وطننا عندما وصل في الماضي إلى الحضيض؛ وخاصة من الناحية الخلقية، حين انهارت فيه القيم والأخلاق والمُثُل لدرجة أن الفساد أصبح في نظر الناس صراطا مستقيما، وصارت الاستقامة شذوذا وكفرا. وقد عشت هذه التجربة عن كثب ورأيتها بعيني ولمست نتائجها الوخيمة الهدامة!
لقد خضنا معركة صعبة لم تنته بعد في هذا المجال، ذلك أن التغلب على الفساد والتخلف يتطلب وقتا طويلا، لرسوبهما وتخمرهما في العقليات الاجتماعية.. وما زلنا حتى الآن نكتشف بؤرا منهما لم تطلها يد الإصلاح بعدُ! زد على ذلك غياب الروح الوطنية ومفهوم الدولة لدى أغلب الناس! ومع ذلك فإن معركتنا ضدهما سوف تتكلل بالنجاح بإذن الله".
وفي ختام لقائنا صافحته مودعا وقلت له: "أنتم في أمان الله وحفظه، وفي ذمة التاريخ وأعين شعبكم الكريم الذي لن يخذلكم، ولن ينساكم، ولن يفرط في إرثكم، وفي قلوب وضمائر رفاقكم وفريقكم وأصدقائكم الذين يستلهمون منكم الإخلاص والشجاعة والتفاني في العمل والحزم والعزم".
وأقول قولي هذا وأنا أتمثل بقول شاعر موريتانيا الكبير أحمدُ ولد عبد القادر، الذي قرأت جل جوهرته تلك لفخامة الرئيس في جلستنا فأعجب بها أيما إعجاب:
"ولست بمداح لقوم وإن علوا ** ولكن فضل الأرض للأرض يذكر".