قطعت جهيزة قول كل خطيب، مثل يصدق أن يقال الآن بعد صدور نتائج المسابقات الوطنية في التعليم الأساسي والثانوي. لقد كثر المنتقدون للنظام التعليمي الموريتاني واتفقوا جميعا على عجزه عن أداء المهام المنوطة به. وقد تكلمت في المقالين السابقين عن بعض تجليات الاختلال الذي يعاني منه التعليم في بلدنا. وفي هذا المقال سأتناول بالكلام أحد ركائز العملية التعليمية ألا وهو المعلم.
إن تحسين أداء النظام التعليمي في بلدنا منوط بتحقيق نمو سريع وشامل في كفاءة المعلمين. ومن المهم هنا أن نتذكر بأن كل المؤشرات الموضوعية تنذر بالخطر الذي يتهدد مهنة التدريس، ولا سيما في المستوى الأساسي، ذلك أن ثمة ثغرات لا بد من سدها في مسار المعلم الموريتاني بدء بعملية اكتتاب المعلم وانتهاء بمزاولة عمله اليومي في الفصل. ومن هذه الثغرات التي تحد بشكل كبير من كفاءة المعلم: الافتقار إلى الصرامة في إجراء المسابقات، والمكونون غير المؤهلين بشكل كاف، وتدني المستوى المعرفي، وغياب أداة للتحقق من مدى استيعاب المعارف والمهارات عند التخرج من مدارس التكوين، وعملية تحويل المعلمين غير الشفافة، وغياب تقييم للمحتوى التكويني للمعلمين، وغياب الإشراف المباشر على المعلم، وضعف المحفزات المهنية.
هذه هي أهم الثغرات التي تحد بشكل كبير من جودة الخدمات التعليمية للمعلم الموريتاني. وفي مثل هذه الظروف لن يتفاجأ أحد بتدني مستويات التلاميذ المنخفض كما تشي به التقييمات التي تقوم بها وزارة التهذيب وكما هو واضح من نتائج المسابقات الوطنية ولعل نتائج العام 2019 خير دليل على ذلك.
لا يمكننا أن نتوقع تحقيق تحسن جذري في جودة التعليم إلا إذا تم التركيز على إصلاح التكوين المهني للمعلمين وأصبح الالتحاق بسلك المعلمين أكثر صعوبة وأصبحت المهنة نفسها منظمة بشكل أفضل، ولا بد أن يتم دعم المعلمين وتقييمهم بشكل أفضل في حياتهم المهنية.
تشخيص الوضعية الحالية ومشكلاتها
يتم تكوين المعلمين في مدارس التكوين في نواكشوط وإينشيري ولعيون و كوركول وتستقبل هذه المدارس حملة الباكولوريا الذين يتم تكوينهم على مدى ثلاث سنوات. وفي عام 2016-2017، بلغ عدد المترشحين 8262 مرشحًا لـشغل 554 مقعدا تتيحها مدارس التكوين الأربعة. ويتخرج من هذه المدارس ثلاثة أنواع من المعلمين هم معلمو العربية ومعلمو الفرنسية والمعلمون المزدوجون.
وتشير الإحصائيات إلى أن مدارس تكوين المعلمين كونت 11321 معلما ما بين عام 1964 إلى عام 2017 (7،502 معلم عربية، 2107 معلم فرنسية و1712 مزدوج). أما المدرسة العليا للتعليم فإن مهمتها تتمثل في تكوين الأساتذة للتعليم الثانوي.
فيما يتعلق بالتعليم الخاص، تؤكد النصوص التشريعية التي تحكمه على الشروط المطلوب توفرها للمديرين، ولكنها لا تتطرق إاى شروط اكتتاب المعلمين أو تكوينهم.
التكوين المستمر
إذا ألقينا نظرة فاحصة إلى الإطار التشريعي والتنظيمي المتعلق بالتكوين المستمر فسوف نكتشف مدى اتساع الفجوة بين النصوص وتطبيقها في الواقع العملي. فالتكوين المهني للمعلمين تنظمه العديد من النصوص. يتعلق بعض هذه النصوص بجميع الموظفين الحكوميين والوكلاء العقدويين في الدولة، بينما يتعلق البعض الآخر بهيئات التعليم الأساسي والثانوي. ويتناول مرسوم محدد التكوين المستمر لمعلمي وأساتذة التعليم الأساسي والثانوي. وينص على أنه يتعين عليهم، ما لم يثبت عجزهم المهني أو البدني، حضور جلسات التكوين أو التطوير في تخصصهم. وقد تكون جلسات التكوين أو التطوير هذه نموذجية وشبه سنوية إذا تطلب الأمر ذلك.
تكوين المعلمين: ثغرات التكوين الأولي تستدعي ضرورة التكوين المستمر
تشير بيانات وزارة التهذيب المتعلقة بتكوين المعلمين إلى أنه من بين 17005 من المعلمين، لم يتلق 2467 أي تكوين أوليً و2753 حصلوا على تكوين غير محدد من حيث المحتوى. وهناك 10224 معلمًا استفادوا من التكوين المهني العادي، في حين تلقى 713 تكوينا سريعًا. والذي نستشفه من هذه الأرقام هو أن
60 ٪ فقط من المعلمين قد خضعوا للتكوين في مدارس المعلمين.
المشاكل التي تعاني منها مدارس تكوين المعلمين يمكن أن نوجزها في ثلاث عقبات كبرى: البنية التحتية، وتكوين المكونين، ومستوى المتدربين وتحفيزهم.
ضعف الطاقة الاستيعابية في البنية التحتية
يبدو أن مشاكل البنية التحتية والطاقة الاستيعابية هي من المشاكل التي تعاني منها المدرسة العليا للتعليم أكثر من غيرها لأنها تضطلع بعشرات الدورات التدريبية في أماكن ضيقة ومتهالكة. بالإضافة إلى تهالك الأثاث والمعدات، وافتقارها إلى الصيانة الكافية. وهذه الوضعية تحد بشكل كبير من إمكانية زيادة عدد الموظفين أو إنشاء شعب جديدة. وبالنظر إلى الحاجة الملحة لتكوين أعداد معتبرة من الأساتذة للمرحلة الثانوية فإنه من المحبذ جدا زيادة عدد المدارس العليا للتعليم أو ربما إنشاء كلية لعلوم التربية والتعليم ضمن جامعة نواكشوط العصرية.
تكوين المكونين: غياب تكوين أولي لمكوني المعلمين
المشكلة الكبرى التي تعاني منها مدارس تكوين المعلمين هو أنه لا يوجد تعريف جامع ودقيق للأستاذ المكون المطلوب لمدارس المعلمين. ولا أدل على ذلك من أن المكونين الذين يناط بهم تكوين المعلمين في الوقت الحالي، لم يتم تكوينهم أصلا ليكونوا أساتذة مكونين للمعلمين. ونتيجة لذلك، فإن هؤلاء المكونين لديهم معرفة قليلة أو معدومة بالمهارات الخاصة بمكوني المعلمين، مثل علم نفس الأطفال والمراهقين، والتربية العامة، والتربوية العملية، وهلم جرا. يضاف على ذلك أن بعض المكونين يلتزمون بتدريس مواد خارج تخصصه. ولعل عدم الاكتراث بالشروط المتعلقة بتخصص المكونين يمثل مشكلة كبيرة في مدارس تكوين المعلمين. إلى ذلك يضاف النقص الحاصل في المكونين في مجالات محددة كالمعلوماتية حيث أن النقص في هذا التخصص منع من تكوين في مجال المعلوماتية كان من الممكن أن يستفيد منه طواقم المدارس وطلابها.
نقص التكوين المستمر لمكوني المعلمين
يقول المكونون العاملون في مدارس التكوين إنهم لم يستفيدوا من أي تكوين مستمر منذ عام 1989، وذلك رغم ما تنص عليه النصوص المعمول بها في هذا المجال، وأن هذه الوضعية أدت إلى عدم انحسار معارفهم ومهاراتهم وساهمت في التدهور التدريجي لجودة تكوين المعلمين. أما الإدارة الوصية فإنها تعلل هذه الوضعية بنقص الموارد المخصصة للتكوين المستمر.
التلاميذ المعلمون
يقتصر القبول في مدارس المعلمين على احتياجات التوظيف والموارد المالية المتاحة، وليس على عدد المرشحين الذين حصلوا على المعدل باللغتين الفرنسية والعربية والرياضيات. ويعني ذلك أن مسابقة دخول مدارس التكوين لا تلقي بالا لجوانب مهمة في شخصية المترشح مثل مقدرته على التكيف مع مهنة التعليم وعلى استيعاب وفهم المعارف والمهارات والجوانب المتعلقة بالالتزام والتحفيز والجاهزية. فلا غرابة والحال هذه أن بعض التلاميذ المعلمين لم يختاروا مهنة التدريس بدافع الاقتناع، ولا بدافع الحب لهذه المهنة، ولكن لأسباب اقتصادية. فهم يعتبرون مهنة التعليم مجرد جسر يعبرون منه إلى وضعية مهنية أكثر جاذبية من التدريس. هذا ولا يتعين على التلاميذ المعلمين التوقيع على التزام بالخدمة في التدريس لفترة معينة.
التكوين في مدارس المعلمين
العديد من التخصصات التي يتم تدريسها ليس لها أي علاقة بمهام معلم المستقبل. والظاهر أن التخصصات الأكاديمية هي السائدة، على حساب التخصصات المهنية مثل سيكولوجية الأطفال والمراهقين والبالغين، والتربية العامة، وتاريخ التربية، والتربية العملية، والتربية النفسية، وتقييم تحصيل الطلاب، وإدارة المدرسة، والإدارة التربوية والإدارية والمالية للمدرسة، والتشريع المدرسي، والأخلاقيات المهنية، وهلم جرا.
صعوبة في تنفيذ إصلاح المناهج
بالتزامن مع إصلاح عام 1999 الذي أدخل ثنائية اللغة، تم اعتماد مقاربة الكفايات لكن إصلاح المناهج الدراسية على أساس هذه المقاربة لم يتم على الوجه المطلوب لأن المعلمين غالبًا ما يخلطون بين المنهجين. والسبب الرئيسي لسوء الفهم هذا هو أنه تم تنفيذ المقاربة الجديدة بشكل متسرع، دون تحضير مناسب.
لقد تم بالفعل إخضاع مدارس التكوين للتقييم لمعرفة ما إذا كان الخريجون يلبون الاحتياجات الضرورية لتنفيذ السياسات التعليمية الجديدة. وقد كانت نتائج التقييم كارثية: المعلمون الذين اضطروا للتدريس في كلتا اللغتين لم يكونوا يتقنون المواد وأقل من 12 ٪ من المعلمين يمتلكون مهارات التدريس في الصف السادس.
عدم استقرار المعلمين
يعاني النظام التعليمي الموريتاني من عدم استقرار المعلمين، الذين يسعون باستمرار إلى ترك أماكن عملهم في المناطق النائية وربما يعود السبب في ذلك إلى عجز الإدارة الوصية والافتقار إلى الحكامة الرشيدة في قطاع التعليم من حيث التوزيع العادل والمنصف الذي يلبي متطلبات الهياكل التعليمية الوطنية والإقليمية والإداراتية.
ولعل من أقوى تجليات الفوضى السائدة في توزيع المعلمين وتحويلهم ذلك التضارب في أعداد المعلمين عند الوزارة الوصية نفسها. ففي الوقت الذي تحدد إحصائيات وزارة التهذيب عدد المعلمين ب 15130 فإن العدد المعلمين الذين يزاولون عملهم لا يتجاوز 11365 معلما بحسب معطيات مديرية التعليم الأساسي. و في حين أن الحاجة من الطاقم التدريسي على كامل التراب الوطني تبلغ 14528 معلمًا فإن البيانات الصادرة عن مديرية الإحصائيات والبرمجة والتخطيط بوزارة التهذيب تحدد عدد المعلمين ب16369 .
رغم وفرة عدد المعلمين كما هو واضح من هذه الأرقام المتضاربة فإن ذلك لم يمنع من بروز ظاهرة تباين توزيع المعلمين في ولايات الوطن بل وحتى داخل الولاية الواحدة. على سبيل المثال، يوجد في نواكشوط – الشمالية فائض من المعلمين يبلغ 343 معلمًا، وفائض في نواكشوط الغربية يبلغ 121 مدرسًا (78 معلمًا للعربية و34 للفرنسية و9 مزدوجين)، بينما تعاني ولاية كيدي ماغا من عجز يبلغ 543 معلما (417 معلم عربية، 58 معلم فرنسية و68 مزدوجا).
تتطلب مراجعة التوزيع الحالي للمدرسين تحديث المعايير وتطبيقها بدقة و وفقًا للمعايير المنصوص عليها في النصوص، سيكون من الضروري، إن أمكن، اكتتاب المعلمين محليا على مستوى كل ولاية، حتى يتسنى تحقيق الاستقرار للمعلمين في المناطق ذات الأولوية الأقل جاذبية. ومن المهم أن تكون هذه السياسة مصحوبة بإنشاء نظام تحفيزي فعال. ومن أجل اكتتاب معلمين ذوي كفاءة وجودة عالية، من الضروري تحسين الظروف المعيشية للمعلمين الذين كثرا ما يعربون عن أسفهم لأن مسار حياتهم المهنية يثبط عزيمتهم بسبب عدم تحديث قوانينهم، والافتقار إلى الإنصاف في الترقية الداخلية وكذلك غالبا ما يشتكون من ضعف رواتبهم. يتواصل ،،،
د. محمد الأمين حمادي
أستاذ بجامعة نواكشوط